عادة مكتسبة قد تصل إلى حد «الهواية القومية»، وهى التربص بالحاضر وتشويه الماضى القريب، نمارسها بمتعة فائقة مع أى شخص أو سياسة أو حدث أو فكرة نختلف معها وعليها، متجاهلين عمدا أن الحضارة الإنسانية هى نتاج تصادم أفكار مختلفة وأحيانا متناقضة، ولا يوجد صحيح مطلق ولا خطأ مطلق، والتنوع هو سر جمال الحياة وحيويتها، وأن أى تجربة إنسانية على أرض الواقع هى وليدة بيئة وظروف ومناخ محيطة بها، وليست مجرد صفحات فى كتاب أو خواطر فى عقل إنسان، أو قضبان حديدية كان يجب أن يمشى عليها قطار المجتمع، حتى الأديان نفسها، فتجربة كل دين ورسالته ونبيه مرهونة بظروفها وزمانها دون المساس بجوهرها.
لكننا ننسى هذا ونقيس بعض تجارب الماضى على معايير الزمن الذى نعيشه الآن، ولا أظن عملا أخضعناه للمحاكمات خارج بيئته كما فعل خصوم ثورة يوليو 1952، خاصة فى علاقات يوليو مع العالم الخارجي، الصداقة مع الاتحاد السوفيتي، العداء مع أمريكا، زعامة ثورات التحرر فى العالم، محاولة تغيير الوطن العربي، الحرب مع إسرائيل. ولدت ثورة يوليو فى عالم يعيش ظروفا غاية فى الصعوبة والحساسية والتفرد، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، تُعاد فيه ترتيبات السيطرة على المعمورة، فى أكبر عملية تسليم وتسلم عرفها البشر منذ كتابة التاريخ، بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
الولايات المتحدة قوة عظمى ناهضة نابضة بالحيوية ومندفعة إلى القمة وفرض إرادتها ورؤيتها البديلة، وكان مستحيلا أن تظل عملاقا معزولا بين المحيطين الاطلنطى والهادى دون أن تدس أنفها فى شئون الدنيا، وقد خططت جيدا للدخول فى الحرب العالمية الثانية، لتكون لاعبا أساسيا فى وضع قواعد النظام العالمى الجديد بعدها. المملكة المتحدة رأس القوى التقليدية فى أوروبا، القوى التى بزغت مع عصر الكشوف الجغرافية، من البرتغاليين إلى الإسبان، ومن الهولنديين إلى الطليان، ومن الألمان إلى البلچيك، ومن الفرنسيين إلى البريطانيين، قوى ظلت ممسكة بخيوط العالم بين أيديها لمدة تزيد على ثلاثة قرون، وكان طبيعيا أن تصيبها الشيخوخة وعوامل التعرية بفعل الزمن والأعباء والحروب وطبائع الأمور من الهيمنة الكاملة ثم التآكل. وفى المعسكر المقابل تجمعت قوى شيوعية جديدة، مختلفة فى كل شىء، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأسلوب الحياة اليومية، هى الاتحاد السوفيتى الذى كسر هتلر وقواته على أبواب ستالينجراد، فى أهم معارك الحرب الحاسمة. وتصارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها والاتحاد السوفيتى وكتلته مثل ديناصورين عملاقين، يتصور كل منهما أن لا حياة له فى العالم إلا بالتخلص من الآخر أو إضعافه بدرجة لا يستطيع معها تهديد وجوده. كان صراعا جديدا على البشرية، صحيح أن الصراعات الثنائية قديمة قدم الإنسان لإدارة الحياة والثروة، لكن دون أن تشمل كل سكان المعمورة معا وفى آن واحد، وتهدد الحياة نفسها بالفناء. نعم فى هذه البيئة الدولية ولدت ثورة يوليو وكانت مصر مستعمرة بريطانية بشروط خاصة، وجاءت على هوى الأمريكان الذين بدأوا الزحف على المنطقة العربية حثيثا بشركات البترول وأحلاف تحت التجهيز، كان ضباط يوليو صغارا فى السن، فيهم سذاجة الحلم واندفاع الشباب وعشق الوطن وسحر التاريخ القديم، وأيضا غرور قوة الدبابات التى وصلوا على جنازيرها إلى السلطة، وبلا خبرة تفسر هذا العالم المعقد. لم يفكروا فى معاداة أحد، ولم تخرج أحلامهم عن حدود وطنهم، حتى إن اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية الجديد زار المعبد اليهودى الكبير مرتين لطمأنة اليهود المصريين على أوضاعهم، ومعهم العالم الخارجي، لكن إسرائيل من اليوم الأول راحت تشهر بالحركة الجديدة وتعمل على تأليب الدوائر السياسية الغربية على ضباط يوليو، تحت لافتة التحذير من الخطر الجديد على المصالح الغربية فى منطقة الشرق الأوسط، وكلفت جماعات الضغط اليهودية فى تلك الدوائر بصناعة فجوة مع هؤلاء الضباط تتسع كل يوم، ولم تفلح جهود عبد الناصر فى سدها، وكانت له اتصالات جيدة بالأمريكان فى سنوات الثورة الأولى، ولم يفكر مطلقا فى الاتحاد السوفيتى إلا مضطرا، وبعد أن جهزت الولايات المتحدة أوراق حلف بغداد طوقا يعوق العملاق الشيوعى من التمدد إلى المنطقة العربية ونشر أفكاره فيها، مع أن الأفكار الشيوعية يستحيل أن تنمو فى التربة العربية المتدينة المناهضة لها، يمكن فقط أن تؤسس جيوبا من بضعة مثقفين هنا أو هناك، ولا أكثر من ذلك.
وبرفض عبدالناصر سياسة الأحلاف أدارت أمريكا ظهرها وقلبت لمصر ظهر المجن. وتوالت خطوات مصر من طلب السلاح من الكتلة الشرقية بعد اعتداء إسرائيلى على حدودها، إلى أزمة تمويل السد العالي، ثم تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وعلى فكرة وقوف الولايات المتحدة مع مصر ونصرتها فى الأمم المتحدة كان مسمارا أخيرا فى نعش الإمبراطورية البريطانية وحصارا للجمهورية الفرنسية، وليس تأييدا للحق والعدل. وفرض تأميم القناة وحرب السويس واقعا عالميا وإقليميا جديدا، صارت القاهرة مثل كرة الشمس تشع الثورة فى أبدان مستعمرات الإمبراطورية القديمة من أحراش أمريكا اللاتينية إلى الجبال الآسيوية، لم تعد عاصمة عريقة لها تاريخ وآثار، بل صارت مركزا لثلاث دوائر دولية مؤثرة وفاعلة جمعت بين التاريخ والجغرافيا والدين، هى الوطن العربى وقارة إفريقيا والعالم الإسلامي، ودعمها شخصية عبد الناصر، وكان أشبه بالبطل الذى ينتظره مسرح الأحداث منذ زمن بعيد، والبطولة فى مسرح الأحداث يفرضها الجمهور لا التخطيط ويقبلها ممن يجسد معانيها ويستجيب للنار المتقدة فى نفوس ثائرة على المستعمر والحكام والظلم والفقر والتخلف. لم تنتزع القاهرة هذه المكانة بإرادتها فقط، إنما وفرتها حالة السيولة التى كان يمر بها العالم والناجمة عن عملية التسليم والتسلم، وكان يستحيل أن تقبل القوتان العظميان هذا الدور، وقررت تدميره كل حسب أهدافه ورؤيته.هذا لا ينفى وقوع يوليو فى أخطاء عظمى، سواء كانت سوء تقدير منها أو سقوطا فى فخ، وليس مقصدنا تبرير هذه الأخطاء، فهذه مهمة العشاق وليس الكُتاب، وإنما يعنينا الفهم الذى يربط تاريخنا ببعضه ربطا يفتح أمامنا أبوابا إلى مستقبل أفضل، مهتدين بتجارب عظيمة دون أن نشوهها عمدا.