Close ad

فى الصلة بين الفقه الأصغر والفقه الأكبر (2)

2-8-2020 | 12:54

تقوم العلوم الأساسية والهندسية، وعلوم الطب والحياة والأرض، وعلوم الرياضيات والحاسوب، على العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات. وبدون هذا لا يمكن أن تتحدث عن قوانين علمية ولا عن تقدم العلوم، وبدون هذا أيضا لن تستطيع الحديث عن كون محكم الصنعة يعمل وفق قوانين دقيقة وغايات حكيمة.


وتقوم أيضا العقائد الكونية في علم أصول الدين المستند إلى الكتاب والسنة الصحيحة على السببية والتعليل والمقاصد والغائية. وبالمثل تقوم الأحكام الشرعية في الفقه اللصيق بالوحي على السببية والتعليل والمقاصد، وهناك حكمة وغاية من وراء الحكم الشرعي. إن أي حكم شرعي له علته وسببه (السبب والعِلَّة مترادفان عند البعض ومختلفان عند البعض الآخر، ونحن نستخدمهما في هذا السياق بمعنى واحد). ومن الصريح الواضح -مثلا- أن علة الصيام حددها الوحي في قوله تعالى: (لعلكم تتقون)، وعلة تحريم الخمر الإسكار وكون ضرره أكبر من نفعه. وهكذا في باقي الأحكام.

أما منكرو العلية والسببية في علم أصول الدين، فهم لا يثبتون علة أو سببا مؤثرا لطبيعته وذاته في الكون ولا في العقائد ولا في الأحكام الشرعية، والمسألة كلها عندهم ترجع للإرادة الإلهية وحكمها. ومعتقد القائلين بإنكار السببية على مستوى الوجود، جعلهم يعدون السبب في الفقه وأصوله مجرد علامة فقط على الحكم، وأمارة لظهور ووجود الأحكام، ومجرد مناسبة أو ظرف مصاحب، أي أن الأسباب ليست مؤثرة لذاتها في وجود الأحكام التكليفية (أصول الفقه لأبي زهرة، ص 54). ولا توجد عندهم علاقة ضرورية بين السبب والمسبب الذي هو الحكم، بل نفوا حقيقة وضرورية السببية والتعليل والحكمة والغائية لذاتها من الحكم... لكن المثبتين للسببية في الكون وفي علم أصول الدين، أثبتوها أيضا في الحكم الشرعي. ويتضح بهذا أن موقف الفقهاء والأصوليين من طبيعة السبب وحقيقته متأثر بمعتقداتهم السابقة في الموضوع. مع التأكيد أن السلف الأوائل متفقون على إثبات الأسباب والحكم خلقا وأمرا.
ولمزيد من الإيضاح فإن السببية هي العلاقة القائمة بين السبب والنتيجة، ومبدأ الـسببية Principle of Causality هو المبدأ الذي يقرر أن لكل ظاهرة سببًا، وأن لا شيء يحدث من لا شيء، وكل ما يظهر للوجود فلوجوده علَّة، وأن الأسباب تتبعها النتائج المترتبة عليها. والسببية مبدأ من مبادئ الطبيعة والفكر. وهي مبدأ قرآني راسخ. ومن الآيات التي ربط الله فيها بين الحوادث على أساس السببية قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: 22)، وقوله تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا َإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل: 60). وحين تتخلف أية عِلَّة عن إحداث معلولها المعتاد، فإن أغلب العلماء والفلاسفة لا ينسبون ذلك إلى عدم الانتظام في الطبيعة وإنما يفترضون أن بعض العلل في بنية خاصة من الأجزاء قد أعاقت العملية (Hume, An Enquiry Concerning Human Understanding, ed. Seiby Bigge. Oxford: Clarendon Press. 1902, P. 58). فقوانين السببية التي تحكم الطبيعة لا تقبل استثناء، ولم يحدث شيء يدل على عكس ذلك؛ «إذن توجد بعض الأسباب منتظمة ومُطَّردة تمامًا في إحداث نتيجة خاصة، ولا يوجد أي مثال لتخلف أو عدم انتظام في وقوع عملياتها؛ فالنار دائمًا تحرق، والماء يخنق، والجاذبية قانون كليّ لم يقبل استثناء حتى الآن» (Ibid., PP. 57 - 8).
وإذا حللنا كل الاستدلالات الأخرى التي لها هذه الطبيعة، فإننا سوف نجد أنها تقوم على أساس علاقة العِلَّة والمعلول، وتلك العلاقة إما قريبة وإما بعيدة، مباشرة أو غير مباشرة، فالحرارة والضوء معلولان مصاحبان للنار، والواحدة منها تستنتج بالضبط من الأخرى (Ibid., PP. 26-7). وهناك نوع من السببية يطلق عليه السببية القائمة على الذاكرة Mnemic causation، وهو مصطلح يستخدم في فلسفة العقل ونظرية المعرفة. (مشتق من الكلمة اليونانية menme التي تعني الذاكرة).
واستخدم «رسل» هذا المصطلح، الذي استوحاه من عالم النفس «ريتشارد سيمون»، للتعبير عن العلاقة بين حدث وقع في الماضي والتذكر اللاحق لهذا الحدث. استجابة الحيوان للحافز الحالي لا يتم تحديدها من خلال القيمة الحالية للمُثير فحسب بل أيضًا من خلال الذكريات memories المرتبطة بدرجات الإثابة والخيبة في الماضي فيما يخص هذا الحافز. هذه الاستجابة هي نوع من الأفعال التي تتم بصورة متفاوتة وتقوم الخبرة experience من خلالها بإصدار صور لاحقة في الذاكرة، لكن بعض الفلاسفة يحاولون إثبات أن هذه العلاقة ليس من الضروري أن تكون علاقة سببية. يقول «رسل»: «أحيانًا نكتشف، فيما يتعلق بالسببية القائمة على الذاكرة، أن صورة أو كلمة ما، بوصفها مُثيرًا، لها تأثير متشابه (أو التأثير نفسه تقريبًا) مثل ذلك التأثير المرتبط بالشيء». (رسل، تحليل العقل Russell, The Analysis of Mind). (انظر مادة السببية في كتابنا: معجم الأديان العالمية).
وإثبات العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات قال به السلف الأوائل وغيرهم كما قلنا سابقا، لكن للأشاعرة رأي آخر في ذلك! فهم ينكرون العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات في علم أصول الدين ويعدون السبب غير فاعل بنفسه، وأن المسبب حدث (عنده) وليس (به)، على عكس صريح القرآن الكريم. كما ينكرونها في الفقه وأصوله؛ فتعريف السبب في علم أصول الفقه حسب اللغة هو: «كل ما يتوصل به إلى مقصود ما»، وحسب الاصطلاح: «ما يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم لذاته». وقال الغزالي: «وَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ السَّبَبِ مُشْتَرَكٌ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، وَأَصْلُ اشْتِقَاقه مِنْ الطَّرِيقِ وَمِنْ الْحَبْلِ الَّذِي بِهِ يُنْزَحُ الْمَاءُ مِنْ الْبِئْرِ. وَحَدُّهُ مَا يَحْصُلُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ» (المستصفى، طبعة دار الكتب العلمية، 1993، ص: 75). لاحظ أن الغزالي الأشعري يعد السبب هو ما يحصل الشيء (عنده) لا (به)، فهو ينكر أن السبب هو المنتج، ويعده مجرد مناسبة أو أمارة أو علامة مظهرة أو ظرف مصاحب. ويضيف الغزالي: «تَسْمِيَتُهُمْ الْمُوجِبَ سَبَبًا فَيَكُونُ السَّبَبُ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ، وَهَذَا أَبْعَدُ الْوُجُوهِ عَنْ وَضْعِ اللِّسَانِ، فَإِنَّ السَّبَبَ فِي الْوَضْعِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَحْصُلُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ؛ وَلَكِنَّ هَذَا يَحْسُنُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ لِذَاتِهَا بَلْ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلِنَصْبِهِ هَذِهِ الْأَسْبَابَ عَلَامَاتٍ لِإِظْهَارِ الْحُكْمِ، فَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ فِي مَعْنَى الْعَلَامَاتِ الْمُظْهَرَةِ فَشَابَهَتْ مَا يَحْصُلُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ» (المستصفى، الموضع نفسه).
وعلى سبيل المثال في علم الفقه لا يعد الإسكارعند الأشاعرة علة تحريم الخمر وإنما هو علامة على الحكم ومجرد مناسبة لإظهاره. وبالتوازي في الطبيعة-في معتقدهم- أن الله تعالى لا يروي الزرع بالماء، والماء ليس سببا لنمو الزرع بل مجرد مناسبة، الله يفعل (عندها) لا (بها). وهكذا فإن نفي السببية في الطبيعة في علم أصول الدين عند الأشاعرة ومن وافقهم، يوازي نفي السببية عندهم في علم الفقه وعلم أصول الفقه.... وللحديث بقية.

اقرأ أيضًا:
ضد التصور الأسطوري للمرأة (9)

رأينا فى المقالات السابقة كيف أن الخطاب الدينى البشرى التقليدى تجاوز فى كثير من الأوقات حدود الوحى فى تفسيره للوحي، وأهدر السياق فى فهمه للقرآن الكريم،

ضد التصور الأسطوري للمرأة (8)

هل تجاوز الخطاب الديني البشري التقليدي حدود الوحي في تفسيره للقرآن الكريم؟ وكيف استخدم التصورات والقوالب النمطية المتوارثة من بعض الأعراف الاجتماعية أو من قصص الأولين دون أسانيد من الوحي الكريم؟

ضد التصور الأسطوري للمرأة (7)

يظهر لنا يوما بعد يوم بطلان طريقة التفكير القائمة على إصدار أحكام عامة دون تمييز، تلك الطريقة التى نجدها فى الخطاب الدينى البشرى التقليدي، والتى تكرر الأنماط

ضد التصور الأسطورى للشيطان (11)

سوف تستمر المعتقدات المزيفة طالما ظل يتمسك البعض بإتباع الفرق وتقديس الرجال، وسوف يستمر الإيمان بالأباطيل طالما يصر بعض المتحدثين باسم الدين على التمسك