في تلك الأيام من شهر أغسطس 1990 كان الصديق الأستاذ رجاء النقاش يبدأ في مقهى "علي بابا" تسجيل سيرة حياة الكاتب الكبير نجيب محفوظ، واستمر التسجيل حتى الأيام الأولى من ديسمبر 91، لتصدر المذكرات بعد ست سنوات في كتاب بات المرجع الأساسي عن حياة محفوظ.
لم يكتب محفوظ سيرة ذاتية، واكتفى بما جاء في رواياته من شذرات ومعايشات حياتية، ثم ما قاله للأديب جمال الغيطاني في كتاب "نجيب محفوظ يتذكر".. لكنه وافق بلاد تردد على اقتراح السيدة نوال المحلاوي بأن يسجل حياته للنقاش لإصدارها في كتاب عن طريق مركز الأهرام للنشر، وكانت خمسون ساعة من التسجيل الذي يعد في حد ذاته كنزا ثمينا..
والإجابة عندي بأن محفوظ لا يميل إلى الاستعراض وراض تمامًا عن حياته، بل أحيانا يؤمن بأن الحياة أعطته أكثر مما يستحق.. والأنا عنده ليست عالية، هذه الأنا يلفها التواضع والاستنارة، ورؤية الطريق.. وهو كما كتب عنه الناقد والكاتب الفلسطيني د. فيصل دراج أنه فضل أن يعيش بعيدًا عن إحراج الحياة وعسف السلطة.
وكتب دراج في مجلة "الوسط" عدد 20 نوفمبر 1995 مقالا بعنوان: "على هامش النقاش بين محفوظ وقباني.. هل لنجيب محفوظ فكر سياسي؟". ورفض دراج ما كتبه نزار قباني ردًا على نجيب محفوظ الذي قال عن قصيدته "المهرولون" بأنها "قوية شعريًا وضعيفة على المستوى السياسي"، ورد قباني بأنه (محفوظ) من تلاميذ المدرسة الساداتية.
واعتبر دراج أن الأدب هو جوهر حياة محفوظ وأن "هذا الأدب هو الحامل الصادق لمواقفه وأفكاره. وتوطد هذا الموقف وتزيده استقرار نزعة زاهدة متقشفة ترى في عالم الأشياء اليومي عالما زائفا، وأن الإبداع الروائي الذي حققه محفوظ هو المرآة الصقيلة التي نقرأ فيها فكره السياسي الحقيقي".
ودائما ما كنت أعتقد بما قاله دراج، ولكن ما يخص السير الذاتية فقد كان يتجنب كتابتها وله رأي سلبي فيها عموما.. فكان قد استمع لشكوى صديقه عبدالحميد جودة السحار من مخاصمة أحد أقاربه بعد ما كتب سيرته.. وانتقد بشدة مذكرات د. لويس عوض التي تناول فيها مرض إحدى شقيقاته.. وهو أيضا ناله بعض الرذاذ من قريب له بعد نشر مذكراته التي كتبها النقاش، من طرف أحد أقاربه..
لقد ترك نجيب محفوظ نفسه تماما للنقاش لأنه يثق فيه، كما ترك حرية حذف أو الإبقاء على ما يريد، واستبعد النقاش الكثير من الأسماء والمواقف التي ذكرها محفوظ ظنا منه أنها قد تستعدي أحدا من الأحياء أو تستفز أي من ذوي الأموات..
وكنت دائما أحث النقاش على الانتهاء من إعداد المذكرات للنشر لأنني متشوق جدا لقراءتها، وكان يتحدث معي عن بعض ما جاء فيها.. زاد على ذلك أن محفوظ كلما رآني، ويعرف علاقتي الوثيقة بالنقاش، يسألني عن المذكرات، وذات مرة قال لي إنه يريد أن يراها قبل الرحيل. وكل مرة كنت أنقل للنقاش رغبة محفوظ في رؤية المذكرات. قلت للنقاش إنني أصبحت أخجل من لقاء محفوظ.
سألت النقاش ما المشكلة التي تعطل المذكرات.. خصوصا وأنه تم تفريغ التسجيلات وباتت شبه جاهزة. فقال لي إنه يريد مقدمة عبارة عن دراسة كبيرة لحياة محفوظ من خلال هذه المذكرات. فاقترحت عليه أن يصدر المذكرات كما هي وبمقدمة كتمهيد، ثم يُصدر الدراسة التي ينشدها في كتاب آخر فيما بعد.
واقتنع النقاش، وشرفني بأن أقرأ المذكرات قبل إرسالها إلى مركز الأهرام للنشر.. واستمتعت بهذه القراءة وعدت بالأوراق إلى الاستاذ رجاء لأقول له إنها من أجمل السير التي قرأتها.. وقد كان لديه أكثر من فكرة عن عنوانها، منها على ما أتذكر أنه كان يفكر في استخدام اسم مقهى "علي بابا" حيث جرت الأحاديث. وأخيرًا استقر على الاسم الذي صدرت به المذكرات والتي فوجئت بعدما أهداني نسخة منها أنه ذكرني في المقدمة بأكثر مما استحق:
"أما صديقي الصحفي الأديب الأستاذ محمد الشاذلي فقد بذل معي جهدا لا أنساه، وتولى مساعدتي مساعدة أساسية في إعداد فهرس الأعلام والأماكن، ولولا مساعدة هذا الصديق الكريم لتأخر صدور الكتاب فترة طويلة أخري".
والمدهش أن الأمر ذاته تكرر مع صديقي الدكتور محمد المخزنجي عندما صارحني بما يموج في نفسه من قلق على تسجيلاته مع الدكتور محمد غنيم ورغبته في إصدارها في كتاب مع دراسة مطولة عن حياة الطبيب الرائد، مما يعطل صدورها حتى الآن وهو ما يضعه في قمة الخجل. فاقترحت عليه نفس ما طرحته على النقاش في مذكرات محفوظ، وبعد أشهر قليلة كانت مذكرات محمد غنيم في المكتبات. وقد نالني شكر وتقدير جديد لكن هذه المرة من المخزنجي.
وفطن النقاش إلى حكمة من وراء ما حدث وكتب في المقدمة: "إن الإحساس بالمسئولية هو إحساس ضروري ونبيل، ولكننا عندما نترك هذا الإحساس يزيد على حده المعقول فإنه يملأ الإنسان بالهواجس والشكوك، ويؤدي إلى التعطيل والشلل".