Close ad

المتن المقدس والمتون البشرية(6)

21-6-2020 | 16:37

نقول مجددا إن القول الفصل الذي ليس بعده قول في الحكم على المتون البشرية، هو قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافا كَثِيرا) (النساء: 82). هذا حكم الوحي، وهذا حكم العقل الصريح، فلا يوجد عمل بشري يمكن أن يستوفي شروط الكمال التام ولا شروط العلم المطلق.

موضوعات مقترحة

ويثبت التاريخ الإنساني وتاريخ العلوم أن أي متن بشري به اختلاف كثير، وهو عرضة للتفاوت بين الجودة والنقص، والتأرجح بين الصواب والخطأ، ويشتمل على الإيجابي والسلبي، وبه القوي وبه الضعيف، وبه اتساق واتزان واضطراب وتضاد وتعارض بدرجة أو أخرى، وقابل للمراجعة والتحسين دوما، مهما سعى مؤلفه، ومهما اجتهد في مراتب العلم،(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(يُوسُفَ: 76).إن علم الله لا متناهي وغير محدود ومطلق، أما علم البشر فمتناه ومحدود ونسبي. ومن الحمق أن يدعي بشر العلم المطلق الذي يختص به الله تعالى وحده لا شريك الله،(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ. وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (الأنعام: 58- 59).

إذن قُضي الأمر بالوحي الإلهي المحكم، أنه لا علم مطلق لبشر، ولا قداسة لأي متن بشري، ولا صحة مطلقة له. ومن هنا فإن المتون التراثية والمعاصرة، يجب أن تكون محلا للفحص النقدي العقلاني، وهي قابلة للتطور والتطوير شأنها شأن أي عمل بشري.

والعلوم في حالة تطور منذ بداية البشرية وحتى الآن، فلماذا يريد البعض تجميد بعض العلوم عند مرحلة سابقة ويخرجها من سياق التطور العام لارتقاء العلوم البشرية عبر التاريخ؟ إنها المصالح الشخصية، ومصالح الطبقة الكهنوتية منذ فجر التاريخ وحتى الآن.

إن العلماء الأصلاء يعلمون أن العالم الحقيقي نفسه عندما يؤلف كتابا، فانه يعيد النظر فيه بمرور الوقت، ويحسِّن ويعدّل على نفسه. وكثير من العلماء لو أُعيدت أمامهم الفرصة لأضافوا وحذفوا وطوروا مما كتبوه مرة بعد الأخرى؛ لأنهم يعلمون أن أي عمل بشري لا يمكن أن يصل إلى الكمال؛ فالكمال والصحة المطلقة للمتن الإلهي: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافا كَثِيرا) (النساء: 82). وقديما كتب العماد الأصبهاني، أو -حسب رواية أخرى وهي الأرجح- كتب القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني إلى العماد الأصفهاني، معتذرا عن كلام استدركه عليه، قائلا: »إنه قد وقع لي شيء، وما أدري أوقع لك أم لا، وها أنا أخبرك به، وذلك أنيرأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر، فأرجو مسامحة ناظريه فهم أهلوها، وأؤمل جميلهم فهم أحسن الناس وجوها…«(محمد صديق خان، أبجد العلوم ص: 52)

وهكذا فإن أغلب واضعي التراث نفسه لا يقدسون أنفسهم ولا ما يكتبونه، ومتون كثير من علمائه وكتابه تنطوي على هذا الوعي العلمي والمنهجي، لكن جاء أقوام في بعض العصور وفي عصرنا، من ذوي العقول المغلقة والعلم المحدود، لا يدركون عمق التراث، وأخذوا يتعاملون معه بنعرة قبلية زاعمين كماله ومطلقيته، مثل أتباع كثير من المذاهب الذين يقدسون أئمتها، مع أن هؤلاء الأئمة أنفسهم لم يدعوا لأنفسهم العصمة ولم يدعوا لأنفسهم الصواب المطلق، ولم يدعوا امتلاك الحقيقة المطلقة. لكن ماذا تقول في صغار الاتباع؟!

حتى الإمام مسلم صاحب الصحيح له منهجه العلمي المختلف عن أستاذه الإمام البخاري في معايير رواية الحديث ومنهجية إدراجها في كتابه (صحيح مسلم)، قال ابن حجر العسقلاني :«حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحدٍ مثله، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل البخاري؛ وذلك لما اختص به من جمع الطرق، وجودة السياق، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق عن النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهّاب«(تهذيب التهذيب ،ابن حجر العسقلاني ، طبعة دار إحياء التراث العربي، ج10، ص127).

وغني عن البيان، أن علوم رواية الحديث نفسها خضعت للتطور، واختلف العلماء في معاييرهم ومنهاجهم سواء في كتب الصحاح أو السنن أو المسانيد، وامتازوا بالتواضع وبذل الجهد والتحري، ولم يدع أحد منهم القداسة أو أنه يملك الصواب المطلق. ولم يزعم أحد منهم أن كتابا من الكتب يملك الصحة مثل القرآن الكريم، فأي متن بشري به الصواب وبه الخطأ. ولذا أتعجب من الذين يرفضون التجديد!

إن كل متن بشري قابل للمراجعة والفحص، والعالم الحقيقي هو الذي يدرك هذا، لا أن يدعي أن كلامه غير قابل للمراجعة، حتى في علوم الدين المتماسة مع الحديث النبوي الشريف تصحيحا وجمعا وتخريجا ورواية، وعلى سبيل المثال فإن الإمام مسلم قام بمراجعة صحيحه وتنقيحه أكثر من مرة، وجعله عرضة للفحص من علماء عصره، ومنهم الإمام أبو زرعة الرازي أحد كبار علماء الحديث وعلم الجرح والتعديل، قال مسلم نفسه: »عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرّجته«. وكثير من علماء الحديث على وعي علمي واضح بذلك، وكتبوا وصرحوا به دون مواربة ودون تعصب للتراث كله ككتلة واحدة دون تمييز، حتى على مستوى علم الحديث نفسه، فهم يعلمون أن مناهجهم بشرية في جمع الحديث النبوي الشريف، قال الألباني :« وليس معنى ذلك أن كل حرف أو لفظة أو كلمة في »الصحيحين« هو بمنزلة ما في »القرآن« لا يمكن أن يكون فيه وهم أو خطأ في شيء من ذلك من بعض الرواة، كلا فلسنا نعتقد العصمة لكتاب بعد كتاب الله تعالى أصلا، فقد قال الإمام الشافعي وغيره: »أبى الله أن يتم إلا كتابه«، ولا يمكن أن يدعي ذلك أحد من أهل العلم ممن درسوا الكتابين دراسة تفهم وتدبر مع نبذ التعصب، وفي حدود القواعد العلمية الحديثة«(شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، طبعة دار السلام للطباعة والنشر: ج1 ص23).

إذن فلا صحة مطلقة لأي متن بشري، وكل بشر يؤخذ منه ويُرد عليه إلا ما جاء وحيا ثابتا متواترا، ولا يوجد متن مطلق إلا المتن المقدس. وهنا يسقط التعصب، وهنا تتهافت المرجعيات البشرية التي تزعم امتلاك العلم المطلق.

> أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة


نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: