النظام العالمى شأنه شأن الأنظمة الاقتصادية الوطنية؛ هناك سلع عامة لابد من اضطلاع طرف بإنتاجها وتوفيرها كشرط رئيسى لبقاء النظام وعمله بفعالية.
الأنظمة الاقتصادية الوطنية لايمكنها العمل بكفاءة دون توافر سلع عامة محددة مثل الأمن، والتشريع، والعدالة، وسيادة القانون.. إلخ.
انهيار هذه السلع أو عدم توفيرها بالفعالية المطلوبة يفتح المجال أمام بدء حالة من الفوضى وربما انهيار النظام، الأمر ذاته بالنسبة للنظام العالمي، هناك قائمة من السلع العامة لابد من توافرها حتى يعمل النظام الاقتصادى العالمى - والاقتصادات الوطنية نفسها- بكفاءة.
هذه السلع العالمية العامة تشمل قائمة ليست قليلة، أبرزها الأمن العالمي، وحرية الملاحة، وحرية التجارة، واحترام القانون الدولى والمعاهدات الدولية، وتوفير السيولة العالمية للدول المأزومة... إلخ.
لكن يظل السؤال المهم: من الذى يجب أن يضطلع بتوفير هذه السلع، ووفق أى شروط، وما هو المقابل؟
لقد وصل التنظيم العالمى إلى مستوى متقدم، حيث بات هناك العديد من المؤسسات الدولية التى تقوم على توفير بعض هذه السلع وتطويرها، من ذلك صندوق النقد والبنك الدوليان اللذان يضطلعان بالعمل على توفير السيولة المالية اللازمة للدول المأزومة اقتصاديا، ومنظمة التجارة العالمية التى تضطلع بتحرير التجارة وحمايتها، ومجلس الأمن الذى يضطلع بحماية السلم والأمن الدوليين، بالإضافة إلى قائمة مهمة من المؤسسات والوكالات الأممية التى تضطلع بوظائف فنية محددة فى مجالات عدة.
لكن فعالية هذه المؤسسات تشهد فى بعض المراحل تراجعا ضخما لأسباب عديدة، أبرزها أنها تظل رهنا بإرادات الدول الأعضاء، وقدراتها المالية والفنية، الأمر الذى يعنى الحاجة إلى اطلاع طرف دولى -كشرط إضافي- للوقوف على مدى توافر وفعالية هذه السلع العامة.
إحدى نظريات العلاقات الدولية المهمة اعتمدت على هذا المدخل لتفسير عمليات الانتقال والتحول داخل النظام العالمي، والتى عُرفت باسم نظرية استقرار الهيمنة. أحد الاتجاهات الأساسية داخل النظرية ذهبت إلى أنه لاستقرار النظام العالمى وعمله بكفاءة لابد من وجود دولة مهيمنة على هذا النظام، تضطلع بتوفير وحماية السلع العامة داخله.
والافتراض المطروح هنا أن بناء هذا النظام والحفاظ عليه يحتاج إلى موارد مالية ليست بإمكان أى دولة توفيرها أو تحملها. الدولة المهيمنة فقط هى التى لديها الاستعداد والقدرة على القيام بذلك. ومن ثم، فإن غياب/ أو فشل هذه الدولة المهيمنة فى توفير هذه الموارد وتحمل التضحيات الضرورية لحماية هذا النظام يؤدى إلى انهياره.
وتزداد الأهمية النسبية لهذا الدور فى أوقات الأزمات الاقتصادية المالية الكبيرة، حيث يصبح على الدولة المهيمنة هنا، وفق بعض المنظرين، توفير خمس وظائف أساسية، هى ضمان حرية السوق، وتوفير القروض طويلة المدي، وتوفير نظام مستقر لأسعار الصرف، وتنسيق السياسات الاقتصادية الكلية، وأخيرا القيام بدور الملاذ الأخير للحصول على القروض وتوفير السيولة.
الدولة المهيمنة فى هذه الحالة تحقق مكاسب اقتصادية وأمنية ضخمة مقابل هذا الوضع المتميز داخل النظام الاقتصادى العالمي. كذلك، فإن هذا الوضع يحقق مكاسب لجميع الدول الأخري، بغض النظر عن حجمها، بل ذهب بعض أتباع النظرية إلى أن استفادة الدول الصغيرة يكون أكبر من الدول الكبيرة، وذلك بالنظر إلى ضعف مساهمة الأولى فى تكاليف وأعباء الحفاظ على هذا النظام من ناحية (التحرر من تكاليف الهيمنة)، وعدم خضوعها لضغوط الإنفاق العسكرى الضخم للحفاظ على أمنها القومى داخل النظام، من ناحية أخري. بمعنى آخر، فإن وضع الدول الصغيرة يضمن لها الاستفادة من وضع الراكب المجانى داخل النظام العالمي. وفى المقابل، يتراجع حجم استفادة الدول الأكبر نسبيا بالنظر إلى تحملها جزءا من تكاليف الدفاع عن حرية التجارة، بجانب الإنفاق الدفاعى الأكبر على أمنها القومي.
ووفقا للنظرية أيضا فإن الانتقال من نظام عالمى إلى آخر يحدث عبر دورات متتالية من الهيمنة، حيث لا توجد هيمنة دائمة. وتنهار الهيمنة القائمة -بحسب أحد المنظرين- نتيجة عوامل عدة، منها رفض وحدات النظام العالمى الالتزام بحالة الهيمنة تلك بسبب سوء استغلال الدولة المهيمنة لوضع الهيمنة الذى تتمتع به، أو عدم العدالة فى توزيع عوائد وتكاليف النظام الاقتصادى الحر وحرية التجارة، أو نتيجة لعدم قدرة الدولة المهيمنة على تحمل تكاليف بقاء هذا النظام بسبب ارتفاع هذه التكاليف أو ما يمكن وصفه بتراجع المنفعة الحدية للهيمنة، أو بسبب الزيادة فى التكلفة الناتجة عن حالات الراكب المجانى داخل النظام.
النظرية بمقولاتها الرئيسية السابقة تعيننا على فهم وتفسير المرحلة الراهنة فى النظام العالمى إلى حد كبير. مظاهر عدة تشير إلى عدم قدرة الولايات المتحدة على تحمل أعباء الهيمنة، وتراجع القدرة على توفير وحماية السلع العامة، بدءا من الأمن العالمى (طلب تحمل الشركاء والحلفاء المزيد من الأعباء الأمنية والالتزامات المالية)، وحرية التجارة (التوسع فى الرسوم الجمركية وبدء حرب تجارية مع قوى دولية عدة)، وحرية الملاحة الدولية (طلب مشاركة الحلفاء مسئولية حماية حرية الملاحة فى مضايق دولية مهمة). أضف إلى ذلك ما كشفت عنه جائحة كورونا من محدودية الدور الأمريكى العالمى فى مواجهة هذا النوع من الأزمات الدولية.
السياسة الأمريكية إزاء هذه السلع العامة المهمة داخل النظام العالمى قد تكون جزءا من توجهات خاصة بالإدارة الأمريكية الراهنة، لكن هذا لا ينفى وجود تحولات دولية عميقة تنال من وضع الهيمنة الأمريكية وقدرتها على الاضطلاع بهذا الدور العالمي، الأمر الذى يطرح سؤالا كبيرا حول من يتولى توفير هذه السلع العامة داخل النظام العالمى خلال المرحلة المقبلة؟ سواء بشكل منفرد أو جماعي.
نقلا عن صحيفة الأهرام