مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، أى فى عام 1950، حدث تغير فى الخريطة السياسية إذ أضيف العالم الثالث إلى العالمين: الأول وهو العالم الرأسمالي، والثانى وهو العالم الشيوعي، إلا أن هذه الإضافة لم تكن كمية بل كيفية بمعنى أن مهمتها المحافظة على استقرار الوضع القائم بين العالمين الآخرين.
وفى هذا السياق انعقد فى عام 1955 أول مؤتمر دولي للعالم الثالث فى باندونج بإندونيسيا بقيادة ثلاثة من القادة الثوريين: نهرو من الهند، وسوكارنو من إندونيسيا، وجمال عبدالناصر من مصر، ثم انضم إليهم رئيس شيوعى منشق عن الكتلة الشيوعية هو الرئيس تيتو من يوجوسلافيا. والمشترك بين هؤلاء الأربعة أنهم اشتراكيون ولكن ليس على النمط الشيوعي. إلا أن هذا الرباعى لم يتمكن من التحكم في الصراعات الإقليمية وفي مقدمتها الصراع العربي - الإسرائيلي فى الشرق الأوسط، والصراع الباكستاني - الهندي في آسيا؛ لأن هذه الصراعات لم تكن لها علاقة بالحرب الباردة القائمة بين العالميْن الأول والثاني. ولا أدل على ذلك من أن الاتحاد السوفيتى كان من أولى الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل. وكان العرب ومعهم الدول الإسلامية ضد أى تغلغل شيوعى فى دولهم.
وبالرغم من قيام الثورة الشيوعية فى كوبا إلا أن أمريكا اللاتينية كانت أبعد ما تكون عن الصراعات الدولية، إذ إن دولها غربية التوجه بحكم الثقافة واللغة، والأغلبية تابعة للكنيسة الكاثوليكية. أقول كل ذلك استلهاماً من خبرة ذاتية أسردها على هيئة قصة جديرة بأن تُروي، وبدايتها عام 1975 عندما دعيت للمشاركة فى المؤتمر الفلسفى الدولى الباكستانى السابع عشر في لاهور. وكان عنوان بحثي: الأصالة والمعاصرة في العالم الثالث، وفكرته المحورية تدور حول الفجوة الحضارية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة والتى ليس فى الإمكان عبورها من غير المرور بمرحلتين: إحداهما إقرار سلطان العقل والأخرى التزام العقل، بتغيير الوضع القائم لمصلحة الجماهير. بيد أنه ليس فى الإمكان انجاز هاتين المرحلتين من غير المرور بعصرين: عصر الإصلاح الديني، وعصر التنوير. وقد أثار بحثى جدالاً حاداً داخل الجامعة وخارجها فى وسائل الإعلام، الأمر الذى أدى فى نهاية المطاف إلى ضرورة تأسيس جمعية فلسفية أفرو آسيوية تكون بمنزلة منتدى للحوار حول البحث عن وسائل الخروج من التخلف الحضارى المهيمن على شعوب إفريقيا وآسيا، وقد كان، إذ تأسست فى عام 1978 بالقاهرة مع عقد أول مؤتمر لها تحت عنوان: الفلسفة والحضارة، وبرعاية الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية الذى كان قد أنشئ فى عام 1948.
وفى عام 1986 عينت عضواً فى اللجنة الدولية لجمعية الفلاسفة الدوليين لمنع الانتحار النووى البشرى مع كبار فلاسفة أمريكا والاتحاد السوفيتى برئاسة الفيلسوف الأمريكى جون سومرفيل، وكان هو الذى صك مصطلح الانتحار النووى البشرى والذى يعنى قتل بعض البشر لكل البشر. وفى ذلك العام نفسه انعقد أول مؤتمر للجمعية فى مدينة سانت لويس بأمريكا تحت عنوان: الفلسفة والمشكلة الجديدة الخاصة بالانتحار النووى البشري، وكان عنوان بحثي: "الأيديولوجيا والسلام"، وفكرته المحورية أن السلام لا يتحقق إلا مع نفي الأيديولوجيا بسبب أن الأيديولوجيا تشى بامتلاك الحقيقة المطلقة التى هى سبب التعصب وما يلزم عنه من حروب. وجاءت الاستجابة سلبية بدعوى أن المسار العقلانى للحضارة الإنسانية يمتنع معه أن يكون الانتصار لملاك الحقيقة المطلقة الذين هم في الوقت ذاته الأصوليون بلغة القرن الحادى والعشرين، ومن ثم فإن رؤيتى للسلام لا تستقيم مع ذلك المسار.
ومع ذلك فالجدير بالتنويه هنا أن الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية فى عام 1988 أصر على أن تكون الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية عضواً باللجنة التنفيذية العليا وقد كان، إذ انتخبت ممثلاً للجمعية. ومن يومها وأنا أشاهد تصاعد الأصولية الإسلامية المتمثلة في الإخوان وفروعها من ميليشيات مسلحة ومتغلغلة فى كثير من مؤسسات دول كوكب الأرض. ولا أدل على ذلك من أننى فشلت فى اتخاذ قرار من اللجنة التنفيذية العليا بعقد ندوة دولية تحت عنوان: «ابن رشد والتنوير» فى عام 1993 الأمر الذى أدى إلى عقدها فى القاهرة فى عام 1994 بتنظيم من الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية. والسؤال بعد ذلك: أين العالم الثالث بعد كل هذا الذي حدث؟ لا يبقى منه شئ، إذ يكون من قبيل السخرية القول إن العالم الثالث باقٍ بدون عالم ثانٍ كان قد انتهى فى عام 1991، أو القول إنه باق والعالم الأول فى حالة فوضى الآن. ومع ذلك يبقى سؤال: ما العمل بعد كل هذا الذي حدث؟ البداية تكون بإلغاء منظمة الأمم المتحدة على غرار إلغاء عصبة الأمم والبديل على نحو ما أرى تأسيس منظمة الأمم العلمانية، وأقول العلمانية لأنها الوحيدة القادرة على إماتة الأصوليات أيا كانت سمتها الدينية. ومن هنا يلزم أن تكون المادة الثانية من دساتير كوكب الأرض: نحن دولة علمانية. أما حكاية العالم الثالث فيلزم أن تضاف إلى «حكايات ألف ليلة وليلة» فتكون ألف ليلة وليلتين ومعها تواصل النخبة سُباتها الدوجماطيقي.
نقلا عن صحيفة الأهرام