Close ad

ثلاثة إخفاقات تفسر غضب الأمريكيين

6-6-2020 | 18:17

رغم لغو الإدارات الأمريكية باسم حقوق الإنسان بغية إخضاع شتى البلدان والنظم لإرادتها وهيمنتها، ورغم زعم المفكر الأمريكى فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ عند المثال الأمريكى الليبرالى فى السياسة والاقتصاد والثقافة، فان انفجار «دعنى أتنفس» قد جسد إخفاق الولايات المتحدة فى بناء دولة لكل مواطنيها.

وهذا الإخفاق أراه العنوان العريض الذى يجسد الإخفاقات التى تفسر الاحتجاجات الواسعة والغاضبة، التى شملت عشرات المدن والولايات الأمريكية. وكما فى كل مكان، حين تنفجر الهبات الجماهيرية العفوية بعد أن يشعلها حدثٌ لا يفسرها بذاته، وتغيب القيادة السياسية الواعية للجماهير، تتقدم الصفوف عناصر فوضوية، وتتوافر الفرصة لعناصر إجرامية وانتهازية كى تمارس التخريب والنهب. وقد كان الحدث هو قتل جورج فلويد على يد شرطة تستهل القتل العنصرى للمواطنين الأمريكيين من أصول إفريقية.

لكن الأسباب العميقة التى تفسر غضبة الأمريكيين تكمن فى إخفاقات مزمنة، أكتفى هنا بالإشارة الى ثلاثة منها. الأول، هو الإخفاق فى اقتلاع جذور العنصرية من المجتمع الأبيض وجهاز الدولة بعد أكثر من قرن ونصف قرن على الغاء عبودية الأمريكيين السود، وبعد أكثر من نصف قرن من انتصارات قانونية مهمة انتزعتها حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كنج. والثانى، هو الإخفاق فى التصدى المبكر لوباء كورونا حين أهدرت الإدارة الأمريكية احترام التوازن الواجب بين حماية حق الأمريكى فى الحياة وواجب حماية الاقتصاد من الانهيار فشغلت أمريكا المركز الأول دون منازع عالميا فى أعداد المصابين والمتوفين.

وقد تناول باراك أوباما- فى مقال منشور على موقع ميدوم- أوضاع بلاده المضطربة مع تزايد المظاهرات الغاضبة على مقتل مواطن أسود، معلناً أن موجات الاحتجاجات تعبر عن إحباط حقيقى ومشروع؛ وداعياٌ إلى تحويل هذا الغضب إلى تحركات سلمية لإحداث عملية تحول حقيقية. ومشددا على ضرورة اقرار السلطة بالدور السلبى الذى تلعبه العنصرية فى المجتمع والتصدى لها، يختم بأن الأشهر القليلة الماضية كانت صعبة ومحبطة، وأن الخوف والحزن والشك والصعوبات التى سببها وباء كورونا فاقمتها التطورات التى تذكر بأن التعصب والظلم ما زالا يشكلان جزءا كبيرا من الحياة الأمريكية.

وأما جورج باكر- الكاتب الأمريكى- فقد كتب تحت عنوان (نحن نعيش فى دولة فاشلة) يقول: إن الأمر تطلب وباء كارثيا لنكتشف شدة الاعراض التى نعيشها؛ حيث تطلبت الأزمة ردا سريعا وعقلانيا، فتعمد الرئيس التجاهل وبددت الإدارة شهرين للاستعداد لمواجهة الازمة، وترددت نظريات المؤامرة وعلاجات المعجزة، وتصرف أعضاء بمجلس الشيوخ والمديرون التنفيذيون للشركات بسرعة ليس لمنع الكارثة القادمة، ولكن للاستفادة منها!! فاستيقظ الأمريكيون صباح الاول من مارس ليجدوا انهم مواطنون يعيشون فى دولة فاشلة، تعانى نقصا حادا فى الاختبارات المخبرية والاقنعة والأثواب واجهزة التنفس، ولا توجد لديها خطة وطنية!! وتعيش حالة من الفوضى المطلقة.

وفى قراءة الأسباب الثالثة للأزمة الراهنة، يسجل الكاتب الأمريكى أنه بعد أحداث 11 سبتمبر، أدت المغامرات الرهيبة ــ خاصة حرب العراق ــ إلى محو الشعور بالوحدة الوطنية والشعور بالمرارة تجاه النخبة السياسية وهى المرارة التى لم تتلاش أبدًا، ورغم الأزمة المالية فى عام 2008 التى قاد اليها كبار المصرفيين لم تتم محاكمتهم واحتفظ معظمهم بثرواتهم واستمروا فى وظائفهم!! ولم يتعاف الأمريكيون من الأزمة قط، وأما أبناؤهم فقد صاروا أفقر من آبائهم، وازدادت مظاهر عدم المساواة، وأما إصلاحات سنوات أوباما فى مجال الرعاية الصحية والتنظيم المالى والطاقة الخضراء فكانت لها تأثيرات مُلَطِفة فقط، وكان الحصاد الدائم للركود هو زيادة الاستقطاب ونزع مصداقية السلطة. وجاء ترامب إلى السلطة باعتباره متمردا على المؤسسة الجمهورية، ولكن سرعان ما توصلت النخبة السياسية المحافظة والزعيم الجديد إلى تفاهم، وتشاركوا الاهداف الاساسية: إزالة الأصول العامة لمصلحة المصالح الخاصة. ولم يتظاهر ترامب قط بأنه رئيس الدولة بكاملها، لكنه وضع الأمريكيين ضد بعضهم البعض؛ على أساس العرق والجنس والدين والمواطنة والتعليم والمنطقة، وكان إنجازه التشريعى الرئيسى، هو اجراء أحد أكبر التخفيضات الضريبية فى التاريخ، فأرسل مئات المليارات من الدولارات إلى الشركات والأغنياء!! مع انتشار العدوى تجلى التفاوت الصارخ فى نظام الرعاية الصحية فكان غالبية ضحايا الوباء من الفقراء والسود.

وعود على بدء،أختم فأسجل أن الجريمة العنصرية الأخيرة، جسدت حقيقة أن المجتمع الأمريكى مازال يعانى مستويات عالية من العنصريّة والتمييز، تمثل أحد أهم مظاهرها فى صعود حركة اليمين العنصرى alt-right وهى تحالف قومى أبيض؛ يسعى إلى طردِ الأقلّيّات الجنسيّة والعرقيّة من الولايات المتحدة، كما ابرز مقال للواشنطن بوست!! ويبقى الطريق الى المستقبل الذى ينشده المجتمع الأمريكى هو بناء دولة المواطنة، دولة كل مواطنيها، التى تحمى جميع حقوقهم، دون تمييز أو تهميش، مهما يكن بلوغ هذا الطريق طويلا.

نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
دور الفكر الاقتصادي في تجنب الثورة «2»

سجلت فى مقالى السابق أن آدم سميث اعتبر أن العائد على رأس المال هو ما يستولى عليه الرأسمالى من العامل الذى يحدد كدحه قيمة وسعر المنتجات، وأن ديفيد ريكاردو

دور الفكر الاقتصادي في تجنب الثورة (1)

سجلت فى مقالى السابق أن مكاسب سياسية كبرى انتزعتها الأمة المصرية بفضل وحدتها- شعبا وجيشا- بثورتى 25 يناير و30 يونيو؛ إسقاط نظامى حكم خلال نحو 30 شهرًا.

تحديات التنمية المستدامة في مصر

لم تتوقف مؤامرات استهداف مصر على امتداد تاريخها الحديث وأزعم أن الوعى الوطنى للمصريين كان رافعة إنجازات مصر بفضل ثوراتها؛ أقصد: ثورة المصريين لفرض محمد

استهداف مصر فى تاريخها الحديث

استهداف مصر فى تاريخها الحديث

إستراتيجية مصر الإفريقية للكسب المتبادل 3

شهدت إستراتيجية مصر الإفريقية تعميقًا لنهج الكسب المتبادل فى عهد الرئيس السيسي، وذلك بحماية حق مصر في الحياة والتسليم بحق إثيوبيا في التنمية، وتعزيز التعاون

إستراتيجية مصر الإفريقية للكسب المتبادل (2)

قبل حرب أكتوبر 1973 كانت إسرائيل تقيم علاقات دبلوماسية مع 25 دولة إفريقية، بيد أنه فى أول يناير 1974 تقلّص هذا العدد ليصل إلى 5 دول فقط، وكان قطع العلاقات

إستراتيجية مصر الإفريقية للكسب المتبادل (1)

فى إدارة مصر لأزمة سد النهضة، أوضح الرئيس السيسي في خطابه أمام الأمم المتحدة، بمناسبة مرور 75 عاما على تأسيسها، أن مصر لن تفرط فى حقوقها الثابتة فى إيرادات

ضرورة تعريف إفريقيا بحقيقة سد النهضة

فى تبرير تعنت إثيوبيا فى تفاوض مصر من أجل توقيع اتفاقية قانونية وفنية ملزمة حول سد النهضة تصاعد لغو جهول يردد فرية أن النيل الأزرق بحيرة أو ملكية إثيوبية!!

الأكثر قراءة