إحنا هنا ليه؟ سؤال طرحه المتلخبط هشام عشماوي في مسلسل الاختيار، علي قائده المقدم أحمد منسي، في الكتيبة 103 صاعقة، والإجابة التي أبهرتني، حين سمعتها قبل كتابة المسلسل بعشر سنوات عام 2008 من المقدم رجب عثمان قائد الكتيبة 12 مشاة في حرب العاشر من رمضان 73، عندما سألته عن أسرار النصر التي لا يعرفها أحد فحكي لي حكاية: جاءني أحد المجندين الجدد في لحظة طيبة وسألني وهو ينظر للشاطئ الآخر من سيناء المواجه لموقعنا وسألني:
ـ معقول يا فندم.. شباب يموت مقابل جبل وصحرا وحبة رمل؟ .. وضعت يدي علي كتف الجندي .. وقلت له: ترضي حد يطردك من غيطك ويستحل شرفك، وأشرت إلي أحد البدو الرعاة علي الشاطئ الآخر وقلت له وهذا الرجل أهله مهجرون في بلبيس ولولاه ماعرفنا ما يجري خلف الساتر الترابي، إنه وقبيلته وكل أبناء سيناء ينتظرون نجدتنا بفارغ الصبر، وسؤال الجندي نبهني كقائد أن أطوف علي كل جنودي وضباطي وأسالهم: انت شايف سينا إيه؟ واحنا هنا ليه؟ من أجابني بأنها حبة رمل.. وشوية بدو أو مش لاقي شغل، أوقفه علي جنب، وبعد يومين تم ترحيل هذا الجندي وسط عشرة جنود إلي مركز الوحدة، فالسرايا الأمامية يجب أن تخلو تمامًا من الخائفين، يحارب معنا فقط الذين أجابوا علي السؤال بأن سيناء برمالها وجبالها وأهلنا جنة الدنيا التي كلم الله فيها سيدنا موسي، وقال فيها ربنا ادخلوها آمنين علي أنفسكم وسط أهلكم!.
وما فعله رجب عثمان مع الخائفين فعله قبله الملازم طلبة رضوان الذي وجد الجندي سيد عبدالنبي يبكي لأن والده لا يجد ثمن الدواء، بعد تجنيده ترك مهنة سائق تراكتور فانقطع راتبه فأرسل الملازم طلبة خطابا إلي رئيس شركة المقاولون العرب فوافق علي التعاقد مع سيد فورا للعمل مع الشركة وأرسل راتبه إلي أسرته طوال خدمته في الجيش!.
ما فعله رجب عثمان وطلبة رضوان وحتى منسي وغيرهم من القادة في التعامل مع الحالات القلقة هو السر العسكري الذي ظل مكتوما ومسكوتا عنه سنوات، ويتردد في الجلسات الخاصة، حتى فجره الرئيس عبدالفتاح السيسي في ذكري نصر أكتوبر عام 2018 بعد استشهاد أحمد منسي حين قال الرئيس: الفرق بين هشام عشماوي وأحمد المنسي إيه.. ده إنسان وده إنسان.. وده ظابط وده ظابط.. والاثنين كانوا في وحدة واحدة.. الفرق بينهم إن حد منهم اتلخبط وخان، وحد تاني استمر علي العهد والفهم الحقيقي لمقتضيات الحفاظ علي الدولة المصرية وأهل مصر، الأول عاوزينه علشان نحاسبه، والثاني نحييه ونصفق له!.
والتصفيق أيضا للمؤلف باهر دويدار الذي بني علي هذه الجملة عمله الفني الاختيار ومعه المخرج بيتر ميمي، المسلسل تاريخي وثائقي يحكي قصة حقيقية عشناها وجمع حول بطلها أحمد منسي قلوب الأسرة المصرية، ولأول مرة مسلسل عن القوات المسلحة يثير هذه الأسئلة ويعطي مساحة للإنسان المتلخبط أن يفضفض، ويذكرني بشخصية حارس العوامة في رواية ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ الذي يعاني ازدواجية بين عمله كمؤذن، وبين اقتياد فتيات الليل لزبائن لا يربطهم إلا العربدة، لكنه يتميز عن عشماوي بأنه مثقف لا يؤمن بالقتل، شهدت حلقات الاختيار الماضية حوارا عبقريا بين نوعين من البشر: الإنسان المحافظ علي عقيدته وانتمائه ويعتبر كل حبة رمل من سيناء مقدسة وتستحق الاحترام لأنها مشبعة بدم الشهداء: استلمناها كاملة ويجب أن نسلمها كاملة.. والنوع الآخر هو الإنسان المتلخبط عشماوي، الذي لعب دوره النجم أحمد العوضي ببراعة، تشعر بأنه تائه وشارد ومغيب.. يؤيد العمليات الانتحارية لكن يخطط فقط لكي يموت غيره، يدخر نفسه للإمارة، وفي محاولة اغتيال وزير الداخلية يحزن لمصرع الطفل البريء وصاحب الكشك، ثم يكذب عينيه برا بقسم السمع والطاعة، وينساق وراء تفسير أميره أبو مصعب بأن قتل الطفل اختبار من الله، و صاحب الكشك البريء يستاهل تلاقيه عميل للشرطة!.
أعود لسؤال عشماوي.. احنا هنا ليه؟ .. الإجابة لخصها مخرج المسلسل حين عرض عشماوي الذي أجاب بأنه جاء ليحارب الطواغيت ويقيم شرع الله ثم يقرأ الآية (31) من سورة المائدة: «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب..»، وبعد نفس اللقطة عرض مشهد أحمد منسي الذي أجاب عن السؤال بأنه اختار الاستشهاد من أجل واجبه وشرفه الوطني ثم يقرأ الآية (159) من سورة آل عمران: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر..»، حوار فني ممتع ومتكرر بطولة القاتل والمقاتل، إنه الاختيار بين الخراب والقتل.. وبين العفو والتسامح!