من يتابع الإنتاج العلمي والثقافي المهتم بالبحث في موضوع «أي عالم بعد أزمة كورونا» في مقدوره أن يضع يده علي إنتاج هائل هدفه الأساسي دحض رجاحة أفكار مهمة تري أن أصل الداء كامن في عمق النظام الرأسمالي العالمي الذي تحول من الليبرالية إلي «التوحش»، وأن هذا النظام الرأسمالي المتوحش هو الذي يجب أن يسقط إذا كانت هناك نية حقيقية للتأسيس لنظام عالمي جديد أكثر رجاحة وكفاءة في مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف التي تأملها البشرية، والمقصود هنا بالسقوط هو «سقوط مرتكزات التوحش» الكامنة والمتأصلة فيما يعرف بـ«الرأسمالية المعولمة» أو «النيوليبراليزم»، كما تري هذه الأفكار أن أوضاع العالم لن تعود إلي طبيعتها بعد انتهاء الجائحة الفيروسية لسبب بسيط هو أن «هذا الطبيعي كان هو المشكلة» علي نحو ما حرص عالم اللغويات الأمريكي نعوم تشومسكي أن يلفت الأنظار. ومن أبرز معالم هذا الطبيعي أو الذي كان طبيعياً قبل الجائحة، والذي يجب أن يتغير هو السيطرة الأمريكية علي النظام العالمي عسكريا واقتصادياً وسياسياً وهو أيضاً معالم «التوحش» في النظام الرأسمالي العالمي، كما تري هذه الأفكار أن «الناجين من كورونا سيتحكمون تلقائياً في الترتيبات التي ستفرض نفسها عالمياً بعد انقضاء خطر كورونا».
خلاصة هذه الأفكار تتنبأ بالسقوط للنظام الرأسمالي الذي فقد ليبراليته والسقوط الأمريكي معاً، وتتنبأ في ذات الوقت بحتمية ظهور منظومة جديدة من القيم «الأكثر إنسانية وإعلاءً لشأن التعاون والتضامن العالمي ونبذ كل أشكال التمييز والاستغلال».
هذه الخلاصة هي التي تفسر حالة الهياج الشديدة الحالية عند الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مدعوماً بآلة جهنمية من مراكز إنتاج الأفكار والمؤسسات الإعلامية هدفها الانحراف بهذا النوع من مسار التفكير وفرض «معركة استبدال الأولويات» علي الرأي العام العالمي.
فبدلاً من أن ينشغل العالم بمستقبله بعد القضاء علي جائحة كورونا، وهو الانشغال الذي سيفتح حتماً الملفين المحوريين: مسئولية التوحش الرأسمالي والأفول الأمريكي وطرح البديل الصيني، يدفع الرئيس الأمريكي وتسانده في ذلك فرنسا وبريطانيا بفرض أولوية البحث في تحديد من المسئول عن تفشي جائحة كورونا، وتوجيه السهام بالتحديد نحو الصين، وفرض معركة «تصفية الصين» في حرب استباقية قبل أن يتحول العالم كله لتصفية حسابه مع التوحش الرأسمالي ويستعد للتأسيس لمعالم نظام عالمي جديد أكثر إنسانية بزعامة عالمية جديدة.
بهذا المسعي الذي يهدف إلي تفجير «حرب باردة عالمية ضد الصين» يحاول الرئيس الأمريكي البحث عن «كبش فداء» يحمله مسئولية قصور الإدارة الأمريكية في مواجهة خطر الأزمة كي لا ينشغل بالبحث عن البديل، وكي لا ينصرف الشعب الأمريكي، في هذه الظروف الانتخابية الصعبة، للبحث في مسئولية ترامب وإدارته عن الأزمة ويقتص منه في التصويت الانتخابي. وعندما فشلت خطة تحميل منظمة الصحة العالمية مسئولية تفشي الوباء يتجه الآن دونالد ترامب إلي تحميل الصين هذه المسئولية. وانطلاقاً من هذا التوجه بدأت معركة «الانحراف بالأولويات» بإعطاء الأولوية لمحاسبة الصين باعتبارها الطرف الدولي المسئول عن تفشي الوباء والمطالبة ببحث هذه المسئولية في مجلس الأمن ومطالبة الصين بفتح مختبراتها أمام العالم في خطوة انتهاك فاضحة للسيادة الصينية والنيل من مكانة الصين. كما تتضمن هذه المعركة التركيز علي أن الولايات المتحدة لن تخرج مهزومة من هذه الجائحة وعلي أن «الصين لن تكون الزعامة البديلة للعالم».
وإذا كان منطق نفي حقيقة »الأفول الأمريكي« المحتمل يبدو منطقاً ضعيفاً ومتهالكاً، فإن هناك من يحاولون الاعتراف جزئياً باحتمالية تعرض الولايات المتحدة لخسارة جزئية لقدراتها ومكانتها، لكنهم يؤكدون علي أمرين أولهما أن الصين هي الأخري ستخسر الكثير من قدراتها في معركتها ضد فيروس كورونا خصوصاً مع تفشي الركود العالمي والتراجع الشديد في قدرات التصدير الصينية للخارج، لكن الأهم هو التأكيد علي أن الصين لن تكون القوة البديلة التي سيكون في مقدورها أن تكون وريثة للولايات المتحدة في زعامة العالم، وأن العالم لن يستقر علي قيادة عالمية في المستقبل القريب أو المتوسط، وأن الأرجح ان تسود حالة من وجود «نظام دولي بلا أقطاب» أو «بلا قيادة».
حالة الانزعاج ، وربما الهلع التي تسيطر حالياً علي كثير من مؤسسات الفكر والإعلام الأمريكية خصوصاً والغربية عموماً امتد إلي حلفاء واشنطن وفي مقدمتهم إسرائيل التي تشعر بانزعاج شديد وربما خوف من التداعيات المحتملة لخسارة الولايات المتحدة مكانتها العالمية، خصوصاً أن إسرائيل ليست لديها أوراق التأثير علي القرار السياسي الصيني كما هي حال علاقة إسرائيل مع الولايات المتحدة. ولعل هذا ما دفع قسم التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الإسرائيلية لإعداد «وثيقة» تبحث في التحولات المستقبلية لعالم ما بعد كورونا وموقع إسرائيل ضمن هذه المعالم تحت إشراف أورن أنوليك رئيس إدارة التخطيط السياسي بالوزارة.
اعترفت هذه الوثيقة بأن «القرية العالمية المفتوحة ذات التجارة الحرة لن تبقي كما هي فيما بعد كورونا» بمعني أن العولمة وما أدت إليه من انفتاح غير مسبوق في الاتصالات والتواصل بين كافة أنحاء العالم، سوف تتراجع بدرجة ملحوظة. فالعالم، حسب الوثيقة، يسير باتجاه أزمة اقتصادية أشبه بأزمة الكساد الكبير الذي فرض نفسه علي العالم في عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي، وأن الناتج المحلي العالمي آخذ في التراجع ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه في المستقبل بالتزامن مع ارتفاع نسبة البطالة في الولايات المتحدة وأماكن أخري بالعالم. لكن الأهم في توقعات تلك الوثيقة الإسرائيلية أن أزمة كورونا «ستكون بمثابة محفز أو معجل لعملية صعود الصين كقوة عالمية» ومن هنا جاء التحذير الإسرائيلي من التغير في علاقات القوة بين الولايات المتحدة والصين، وتوقعت أن يؤدي ذلك داخل الولايات المتحدة إلي توحد الجميع في معركة المواجهة مع الصين، أما إسرائيلياً فقد أوصت الوثيقة بـ «ضرورة استمرار إسرائيل في اتباع سياسة المحافظة علي العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة كمصلحة عليا مع استغلال الفرص الاقتصادية وغيرها مع الجانب الصيني».
توصية مفعمة بالانتهازية لكنها، في ذات الوقت كاشفة لأهم معالم ما بعد كورونا التي يقاتل الرئيس الأمريكي لعرقلة تحولها إلي واقع جديد يعيشه العالم لكون الولايات المتحدة ستكون هي أول من سيدفع أثمانه.
نقلا عن صحيفة الأهرام