منذ سنوات بعيدة؛ ونحن نستمع مع كل تغيير أو إحلال وتجديد للحقائب الوزارية في مصر؛ عن خطة عصماء مدروسة ـ ماتخُرِّش الميَّة ـ لتقليص عدد الوزارات إلى أقل عدد ممكن؛ لضرب عدة عصافير على شجرة الهيكل الإداري المصري المهترئ بهدف القضاء على (الروتين) ــ بحسب التعبير الإنجليزي الخاطئ المتداول فوق الألسنة ــ والذي يقُصد به "التنظيم أو النظام"؛ وحتى لا يحدث أي تضارب أو تعارض مع اختصاصات كل وزارة كما يحدث ــ الآن ــ بين وزارات "البيئة" و"التنمية المحلية" و"التضامن" على سبيل المثال لا الحصر.
وزيادة في التفاؤل استمعنا إلى خطة تتمثل في أن يكون هناك وزارة واحدة لـ"الدفاع والإنتاج الحربي"، و"التنمية المحلية مع البيئة"، و"التعليم العالي والتربيه والتعليم" و"السياحة والطيران"، و"الثقافة والآثار"، إضافة إلى وزارة الطاقة لتضم "الكهرباء والبترول"، و"التضامن والقوى العاملة"، و"الزراعة والري"، وأيضًا "الهجرة مع الخارجية"، و"وزارة التجارة مع التموين والصناعة"، وكل هذه الوعود والأحلام الوردية لم تر نور الشمس في سماء المحروسة!
واسمحوا لي بوقفة قصيرة لبيان مثال حي لهذا التضارب الفج في الاختصاصات والتخصصات بين الوزارات، وهو الذي مازلنا نعيش في أجوائه هذه الأيام وسط معركة المواجهة مع "فيروس كورونا" الذي اجتاح العالم بضراوة، لتقوم "وزارة الصحة" ـ مشكورة ـ بجهودٍ خارقة لمحاصرة "الميكروب" في أضيق الحدود، مع إطلاق كتائب الأطباء ومجموعات التمريض في ربوع مصر كافة: قرُاها وكفورها ونجوعها، واتخاذ بعض الإجراءات الوقائية والرجاء بالحد من التجمعات البشرية في الأسواق التجارية والأماكن العامة؛ ومنها دور العبادة في المساجد والكنائس، والتي وصلت ذروتها بمناشدة السيد رئيس الوزراء بإصدار القرار الفوري بفرض "حظر التجوال" حتى تمر الأزمة بسلام .
ولكن سيادة وزير الأوقاف ـ مع كامل احترامي للشخص والمنصب ــ خالف الأعراف والقوانين وما يسمَّى بالتنسيق المُفترض بين الوزارات في الدولة، وليضرب ــ بتعبير المصريين أولاد البلد ــ "كرسي في الكلوب"؛ وليطيح عرض الحائط بتحفظات وزارة الصحة وجهودها ـ وبخاصة بعد ظهور بعض الحالات الإيجابية في محافظات الشمال والجنوب ـ وليقيم الشعائر ويتولى القيام بدور "الإمام" في صلاة الجمعة بمسجد التليفزيون، هذا التليفزيون الذي يتبع الدولة ـ بكل المذاهب التابعة للشافعي وأبي حنيفة والمالكي وابن حنبل!
أليست هذه التصرفات المتجاوزة ـ والتي لا أقول غير المسئولة ـ بحجة الحفاظ على إقامة شعائر الله ـ وعدم التنسيق بين وزارات الدولة الواحدة، هو تخبط ولا مبالاة تصل إلى ما يشبه التحدي لقرارات واجبة في صالح البشر وصحتهم وحياتهم على أرض هذه الدولة؟ بلى! ولكنها مظهرية المحافظة على اختصاصاته كـ "وزير" والتأكيد على أنه يُهيمن على مساجد الدولة وما يحدث فيها، برغم المخاطرة والخطورة على حساب أرواح البشر؛ وبرغم الرخصة الشرعية التي أعطانا إياها الله سبحانه وتعالى؛ حين قال في كتابه العزيز: "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" [البقرة:195]
والسؤال المُضحك المُبكي في آن: إلى أي وزارة تندمج "وزارة الأوقاف" إذا ما أردنا جادين في دمج الوزارات؟ وأعرف مُسبقًا ببعض الردود التي قد تنادي ـ بعنجهية ـ بقدسية تلك الوزارة! وتناسوا أن الإنسان قبل البنيان!
وجدير بتفاحة معطوبة واحدة؛ أن تصيب بالعطب والعطن ثمار العشرات من أشجار التفاح ـ والمثال مع الفارق ـ ما بالكم وحركة الأمواج المتسارعة والمتصارعة في نهر الحياة في الشارع المصري بملايينه المائة؟
إننا لا نطلب المستحيل، ولسنا ضد إقامة شعائر الله في بيوته ليُذكر فيها اسمه، والله ـ جل جلاله ـ في أنفاسنا وأقرب إلينا من حبل الوريد، وهو الذي أمر الرسول الكريم إبان دعوته خوفًا عليه وعلى الرسالة وأرواح من قاموا بتلبية دعوته: "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا" (الإسراء110)، ولكننا نطلب المواجهة لكل الشرور والموبقات بالاصطفاف في جبهة واحدة مؤمنة برسالة الأديان والإنسان خليفة الله في الأرض.
وليس هناك أدني شك في أن الإحساس الجمعي في الشارع المصري؛ يؤمن إيمانًا عميقًا بسلامة الخطوات الحكيمة التي تنتهجها القيادة المصرية الوطنية والقيام برصد مئات المليارات للحفاظ على الوطن والمواطن ومكتسباته التي دفع "فاتورتها" من دماء شبابه في الداخل وعلى حدوده، وسارعت بنزول رجال وحدات الجيش الخاصة بالحرب الكيماوية ومعداتها لتعقيم الشوارع والأسواق الكبرى وأماكن التجمعات البشرية في خطوط المترو والمواصلات العامة، وتتم هذه الخطوات بجدية تامة؛ خاصة بعد التعرف على مدى الكارثة المفجعة، وهي الكارثة التي حدثت بالشاطئ المقابل للإسكندرية في إيطاليا، والاستهتار الذي تم في سلوكيات الشعب الإيطالي ـ القريب من عاداتنا وسلوكياتنا غير الملتزمة ـ والتي أودت بحياة المئات نتيجة افتراس الميكروب اللعين لهم.
وحسنًا فعلت وزارة الدكتور/مصطفى مدبولي ـ لحظة كتابة هذا المقال ـ بإصدار القرارت الفورية الملزمة للجميع ـ بما فيها دور العبادة ـ بالحد من النشاط الدعوي وسط التجمعات؛ والصلاة كلٌٌ في رحاله كما حدث في الاحتياطات حول مسجد الرسول والكعبة المشرفة .
إنها رسالة الأمن والأمان والاطمئنان لجموع الشعب العامل على أرض مصر المحروسة بإذن الله العلي القدير؛ الذي نسأله السلامة في زرعنا وثمرنا وقُوتنا وأرزاقنا وصحتنا وأرواحنا ودولتنا الفتيَّة برجالاتها الساهرين على أمنها وراحة كل كائن على ترابها .
وقانا الله وإياكم شر كل بلاء وابتلاء .
كاتب المقال :
* أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون