عندما لا يجد المرء أن الكثيرين ليس من العامة فقط، ولكن من المفكرين والإعلاميين، لا يجيدون قراءة شخصيات الرجال، ولا يستندون إلى معايير مهنية موضوعية، عندما يقيمون الآخرين، أو عندما يتخذون قرارات مهمة، وأن صاحب الصوت العالي دائمًا هو الذي يحقق المكاسب، وأن العلاقات العامة هي التي تحكم القرارات في معظم أمورنا، يجد المرء نفسه مجبرًا أن يتحدث عن خبرات حياته، ليس ليقول "أنا هنا"، ولكن حتى يستفيد منها الآخر، ويتعلم منها، ولعله يشعر بالندم يومًا أنه لم يكتشف ولم يعرف أقدار الناس.
على مدى أكثر من أربعين عامًا عملت خلالها - وما زلت أعمل بالمجال الإعلامي - صحفيًا وأستاذًا للصحافة في الجامعات المصرية، خاصة جامعة 6 أكتوبر بكلية الإعلام وفنون الاتصال، التي ترأست فيها لمدة أربع سنوات قسم الصحافة، وأصدرت بها جريدة "الجامعة" على غرار تجربة "صوت الجامعة" التي أصدرها الأستاذ جلال الدين الحمامصي خلال فترة إشرافه على كلية الإعلام جامعة القاهرة.
مررت بالعديد من التجارب الصحفية؛ سواء في مصر أم خارجها، تعلمت منها، وساهمت في إثراء مسيرتها، ونقشت حروفًا من ذهب في سطور تاريخها المضيء.
ومن التجارب الصحفية التي أعتز بأنني كنت من بُناتها، وساهمت في وضع أركانها، حتى ارتفع البناء وتعاظم وسار عَلمًا في دنيا الصحافة المسائية ذات التوجه الشعبي، والتي عبرت بحق وصدق عن الناس، وكانت عونًا لهم في وقت عز فيه العون وقل المدد، هي تجربة "الأهرام المسائي".
عندما عدت في نهاية عام 1990 من دولة الإمارات العربية المتحدة؛ حيث عملتُ هناك نحو ست سنوات محررًا، ثم مديرًا لتحرير "مجلة زهرة الخليج" انتقلت من الأهرام اليومي إلى مجلة نصف الدنيا، وعملت قرابة العام مع الكاتبة الصحفية الكبيرة "سناء البيسي" التي يحسب لها أنها منحتني الفرصة كاملة لتقديم مجموعة من التحقيقات والحوارات الصحفية التي أعتز بها في تاريخي الصحفي، وخلال هذه الفترة حصلت مع الزميل "ممدوح الولي" على جائزة مجلس وزراء الإسكان العرب في التحقيق الصحفي عن سكان العشوائيات، وكان معنا أيضًا الأستاذ أكرم العيسوي.
وعندما أصدر الكاتب الصحفي الكبير "مرسي عطاالله" جريدة الأهرام المسائي، انضممت إليها بعد نحو شهر؛ حيث أسند لي رئيس تحرير المسائي مهمة مدير التحرير، وكانت هذه ثقة كبيرة، مازلت حتى الآن أعتز وافتخر بها، ففي مدرسة "مرسي عطا الله" تعلمت الكثير، وأعطيت الكثير أيضًا، وكانت السنوات الثماني التي قضيتها في أتون تلك التجرية الصحفية الفريدة هي أخصب سنوات العطاء الصحفي في مشواري المهني.
ذهبت إلى مكتب الأستاذ مرسي عطاالله لتهنئته على الإصدار الجديد، فإذا به يطلب مني أن أكون معه، وقال لي "ستكون ذراعي اليمين، وأنا أعرف من هو إسماعيل إبراهيم" قلت له "لي الشرف"، ولكنني لم أكتب طلبًا، ولم أتحدث مع الأستاذة سناء البيسي في الأمر!!
قال لي انتظر لحظة، وترك جاكيته على كرسيه في مكتبه بالطابق الرابع، وكان معه في الحجرة الأستاذ إحسان بكر رحمه الله رحمة واسعة، وخرج ولم يغب سوى بضع دقائق، ووجدته قد استصدر قرارًا من رئيس تحرير الأهرام وقتها الأستاذ إبراهيم نافع بنقلي إلى الأهرام المسائي.
قلت له لابد أن أخبر رئيسة تحرير "نصف الدنيا" فذهبت إليها وشكرتها على ترحيبها بي وإتاحتها الفرصة لي على تقديم مجموعة من التحقيقات الصحفية المميزة، سأعود للحديث عنها في وقت سابق.
في أول يوم عمل لي مع مرسي عطاالله، وكان الاجتماع بقاعة الاجتماعات في الأهرام، قدمني للزملاء وقال لهم: "سيكون إسماعيل إبراهيم هو حلقة الوصل بيني وبين كل المحررين وكافة الأقسام"، وتنسيق المادة الصحفية قبل عرضها عليّ.
كنت أذهب إلى الجريدة - وكنا نصدرها لمدة عام من صالة تحرير الأهرام - يوميًا من الساعة السابعة مساء، واستمر في العمل حتى العاشرة في صباح اليوم التالي، كانت الكتيبة الصحفية التي استعان بها رئيس التحرير من الزملاء في الأهرام، تضم الأساتذة: عبداللطيف الحنفي من القسم الخارجي، ولم يكن يحضر سوى الساعة الثانية عشرة ليلاً بعد أن نكون قد أعددنا وجهزنا كل صفحات الجريدة، المحرر البرلماني الأشهر محمود معوض "رحمه الله" الذي كان صانع معظم مانشيتات الجريدة في سنواتها الأولى، مدحت خطاب (دينامو السكرتارية الفنية) وكان يعاونه حسين جبيل ومصطفى بشندي رحمه الله، وأشرف ندا، وعادل أمين، الذي كان مسئولاً عن الرياضة مع نصر القفاص، الذي لم يستمر طويلاً، وأحمد موسى، وكان يشرف على الحوادث، وحل محله محمد عبدالباري، ومحمد مطر، ود.محمد منصور الذي كان متعاونًا من الخارج لكونه مدرسًا في كلية الإعلام، وكان مشرفًا على الأخبار، وسمير الشحات، ورسام الكاريكاتير القدير فرج حسن، ثم انضم إلينا من جريدة مايو، حسين غيته محررًا للرياسة والدفاع، ومراد عز العرب الذي كان مساعدًا لي.
أما باقي الكتيبة، أو بمعنى أصح جنودها الفاعلون فكانوا من الشباب من خريجي الجامعات، خاصة كلية الإعلام، وطلاب الجامعات، الذين كانوا يأتون إلينا بالعشرات، وكان بابنا مفتوحًا للجميع بدون واسطة أو محسوبية، كان العمل والممارسة هي المحك الرئيسي للحكم على كل من ينضم إلينا.
بالفعل كانت مدرسة، أو هكذا كان يقول عنا الزملاء القدامى بالأهرام، مع أنهم كانوا يقولونها من باب "التهكم" إلا أنها كانت مدرسة صحفية حقيقية، كان "ناظرها" مرسي عطا الله وأنا وكيلها، وباقي الزملاء من الأهرام مدرسوها، تجربة كان المحترفون فيها، يتولون تدريب الهواة (الشباب) وتوجيههم، وغربلة حصيلة جهدهم، وتحويله إلي مادة صحفية، كانت بالرغم من ذلك تحدث دويًا صحفيًا، وكانت تجري خلفها في اليوم التالي الصحف الكبرى التي يحررها جيوش من المحررين الممارسين.
وبفضل قيادة مرسى عطا الله وتشجيعه وتفاني الزملاء - كبارًا وصغارًا - استطعنا بدون مكان، وبمكافآت قليلة وشباب الخريجين، أن نكون جريدة مسائية حقيقية، كان لها صدى كبير في دنيا الصحافة، عندما كانت الصحافة لا تزال عفية وفتية.
[email protected]