Close ad

أيام مع نجيب محفوظ (4)

3-3-2020 | 17:33

كل شيء في حياة نجيب محفوظ تغير بعد حصوله على جائزة نوبل في الأدب عام 1988، ويوم تسليم الجائزة في استكهولم في ديسمبر من نفس السنة، وكنت هناك لتغطيتها صحفيًا، حسبت عمر محفوظ، وكان 77 عامًا بالتمام والكمال.

ومنذ ذلك اليوم تغيرت حياته، مع السن ومضاعفات السكر، والارتباطات الجديدة.

وقال لي بعد عامين من حصوله على الجائزة: "والآن أنام ولا أعرف في أي ساعة سوف استيقظ، زمان كان الموظفون أسفل كوبري قصر النيل ينظرون إلى ساعاتهم ويقولون لي: كان مفروضًا الآن أن تكون في منتصف الكوبري وليس في أوله".

  أما ما يخص ما روجه البعض من أن تأييد نجيب محفوظ معاهدة السلام ولقاءه مع أكاديميين إسرائيليين، سهل حصوله على جائزة نوبل، فلا يستطيع أحد أن يجزم بذلك؛ لأن محفوظ يستحق نوبل بشهادة كل النقاد، وباعتباره رائدًا للرواية العربية، والذي استطاع في كل إبداعاته تجسيد ومتابعة ونقد الحياة المصرية العميقة بكل تفاصيلها بدءًا من كتاباته "الفرعونية" إلى تسجيل أحلامه، مرورًا بأعماله الرائعة من "زقاق المدق" إلى "الثلاثية" و"الحرافيش"، "القاهرة 30" و"بداية ونهاية"، "الطريق" و"ثرثرة فوق النيل"، "السمان والخريف" و"ميرامار"... إلى ما لا حصر له مما أثر في الوجدان بالقراءة أو المشاهدة، بعد أن تحولت تلك الأعمال إلى السينما.

 لكن نجيب محفوظ كان عندما يتحدث يمسك العصا من المنتصف، ربما لا يفعل ذلك في رواياته، ولكن كثيرًا ما كان يقبل النقاش ويلجأ للمناورة حول مواقفه السياسية التي صدمت البعض.

فنجيب محفوظ كان مُفضلا ًعند النقاد اليساريين برغم أنه محافظ، وعند الناصريين برغم نقده عبدالناصر وثورة يوليو.. فيما انزعج كثيرون من أصدقائه الكتاب والفنانين من موقفه من معاهدة السلام، وما يمكن اعتباره تطبيعًا رفضته النقابات والاتحادات المصرية كافة. وكان محفوظ من طبيعته ألا يُغضب أحدًا، وقبل نوبل بثلاث سنوات بدا محفوظ وكأنه نادم على العلاقات التي نشأت بينه وبين عدد من أساتذة الجامعة في إسرائيل.

وقال للصحفي الصديق عصام الغازي في حوار لمجلة "المجلة" إنه بشر ولم يدع العصمة من الخطأ، وأكد أنه لا توجد صداقة بينه وبين أي مسئول ثقافي إسرائيلي.

ولكن محفوظ اقتصر ندمه على حوارات أجراها مع إسرائيليين، أما موقفه من معاهدة السلام فقد تشبث به، وتساءل هل أنت قادر على أن تحارب إسرائيل والاستعمار معًا؟ وهل هناك حرب يمكن أن تستمر إلى الأبد.

وكانت هذه كما ذكرت إحدى نقاط الشغب في الحوارات والأحاديث التي كنا نجريها مع الكاتب الكبير.

 بعد نوبل بنحو ساعتين أو ثلاثة دخلنا بيته في الطابق الأرضي في 172 شارع النيل بالعجوزة، والذي انتقل إليه من سكن العوامات نحو العام 1966.

قلت له بصوت عال على مرأى ومسمع من الصحفيين الزملاء في صالة شقته الصغيرة، ها هي نوبل أدخلتنا بيتك أخيرًا، فرد وهو يجلجل بضحكته: وأدخلتني أنا كمان.

هو الرجل نفسه الضاحك والساخر والمتواضع المتقبل للحياة بكل مجرياتها، ولا يتوقف أبدًا عن الضحك، حتى بأمر الأطباء.

فقد ذكر في حواره مع الكاتب المسرحي ألفريد فرج (ثرثرة مع نجيب محفوظ في البيكاديللي ـ مجلة المصورـ 1991) أن الطبيب أمره بألا يضحك حتى يلتئم الجرح.

وكان خارجًا لتوه من عملية جراحية في القلب في لندن والتقاه ألفريد هناك في حضور ابنته أم كلثوم.

وقبل السفر كنت قد سألت نجيب محفوظ فقال لي إنه وافق على السفر بعد نصيحة الأطباء، فقلت له نريد أن نكتب في "المصور" خبرًا عن صحتك نطمئن به القراء، فقال: أكتب صحتك.. وأطلق ضحكته الجميلة التي تشرح القلب، وكتبت في الخبر: هذا الرجل لا تفارقه روح الدعابة أبدًا، وأضاف: الحمد لله صحتي كويسة، وأسافر السبت أو الأحد وأعمل الكشف الطبي يوم الإثنين؛ حيث يتقرر إجراء جراحة فورًا أو العودة.

سألته: وإذا تطلب الأمر إجراء جراحة، أجاب: مفيش حيلة، سأوافق.

وليلة السفر مساء السبت حرص على لقاء جمع الأستاذ رجاء النقاش والمخرج توفيق صالح وأنا في كافيه شيراتون القاهرة، وكتبت عن ذلك اللقاء النادر في مجلة "المجالس" الكويتية وكان مدير مكتبها في القاهرة زميلي وصديقي محمد الحنفي.

 تلك نوبل التي جاء في حيثياتها ذكر رواية "أولاد حارتنا" فظن المتشددون أن منحه الجائزة كان بسبب هذه الرواية، (ونوهت الجائزة بأعمال أخرى مثل: زقاق المدق، الثلاثية، وثرثرة فوق النيل)؛ ولأن لهم فهمًا خاطئًا لها، فقد كفروه، ووضعوا خطة لاغتياله كادت أن تنجح لولا مشيئة الله.

وغني عن القول إن الذين قاموا بمحاولة الاغتيال يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994، والأستاذ نجيب أمام منزله يتأهب للذهاب إلى لقاء الأصدقاء الأسبوعي في كازينو قصر النيل لم يقرأوا حرفًا واحدًا لنجيب محفوظ لا من هذه الرواية ولا من غيرها.

والأستاذ التزم رأي الأزهر بعدم طباعة الرواية بعد نشرها مسلسلة في الأهرام سنة 1959، ولم تُطبع الرواية إلا في بيروت سرًا، ثم في مصر عنوةً بعد نوبل، وفي كل الأحوال لم يكن راضيًا بما يحدث من مافيا النشر من دون إذنه.

 لم يكن الكاتب الكبير كما صوروه، وأولاد حارتنا ليست رواية دينية، ولم يصور فيها الأنبياء والرسل، إنما هي رواية رافضة للطغيان.

وكما أفتي الشيخ عمر عبدالرحمن بأنه "لو ردعنا نجيب محفوظ في حينه لما ظهر لنا "سلمان رشدي" صاحب "آيات شيطانية" والذي أفتي آية الله الخميني بإهدار دمه، ورصدت إيران لقتله ملايين الدولارات.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: