ونحن نعمل على تطوير إعلامنا لابد أن نضع فى اعتبارنا أن أساس التطوير وعمدة كل شيء هو المهنية والرسالة، فإن لم يكن للإعلامي هدف أو رسالة يبتغيها من عمله ويؤديها بمهنية فلا قيمة لهذا العمل، وعندما يكون الإعلامي مؤمنًا بأهمية المضمون الذي يسعى لتوصيله إلى الجمهور، كلما برع فى التعبير عنه وشحذ كل أسلحته وجند جميع أدواته ليصل إلى الهدف بدقة.
ويتعاظم دور الإعلامي عندما يكون مبدعًا من أصحاب الأقلام القادرة على النفاذ إلى قلب الأشياء وإحداث التأثير المرجو بسهولة ويسر، وكلما كان المضمون راقيًا وساميًا كان كالجواهر، ولاغرابة فالمضمون هو الجوهر، والجوهر كالذهب عال القيمة وغالى الثمن.
ومن الأعمال الإبداعية الراقية رواية "إسكندراني من بوسطن" التي أشرت إليها الأسبوع الماضي، تأليف الإعلامي "خليل الحداد"، الذي جمع أسلوبها السردي بين بلاغة البيان القرآنى، فلا تخلو صفحة أو يمر حدث من أحداثها إلا ووجدنا فيه الثقافة القرآنية بادية ظاهرة، تسحر لب القارئ وتأسر عقله، ويحتكم إلى الدين ويلجأ إلى أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في شرح وتفسير كل موقف يعيشه أبطال روايته، وهي غنية بالتأثير الشعري، الذي ينم عن مخزون شعري رائع يحظى به المؤلف، وينساب من خلال سطور الرواية، فعلى لسان أشرف بطل الكاراتيه وهو يصف البلطجي "سامبوبن عزيزة" عندما كان فى قسم الشرطة مع ابن خالته بدر، يأتي بيت شعر لشاعر الرسول حسان بن ثابت (لاعَيْبَ في القومِ من طولٍ ومن غِلَظٍ.. جسمُ البغال وأحلام العصافير).
الرواية وفي إطار الأحداث تؤصل وتعوُد من يطالعها على اللغة العربية الصحيحة والسليمة، فهي تقدم دروسًا في اللغة العربية بطريقة غير مباشرة موضحة ومفسرة، من ذلك قوله مثلا: "تحرك الحقد في نفس الدُكْش، حينما رأى مكانة بدر بين زملائه، وكيف أنهم يعاملونه كأنه واحد من أساتذتهم، لعله قارن بين أتباع بدر وهم يحيطون به، كأنهم زهور متفتحة، وبين الجالسين حوله وكأنهم (قِلال) فارغة لا تروي ظمآن بشربة ماء، حرص "خليل الحداد" ليس فقط على أن يصيغ روايته بلغة عربية رصينة صحيحة، بل عمد إلى ضبط حروفها وتشكيلها، فحقق إضافة إلى متعة القراءة، متعة إجادة نطق العربية لغة القرآن الكريم.
الرواية - في إطار هدف المؤلف لتأصيل قيم ومفاهيم صحيحة وجديدة فى تصريف الأمور والنظر إلى الأشياء وتصحيح العادات الخاطئة، ووضع الأمور في نصابها - غنية بالنصائح غير المباشرة، والتصرفات السليمة التي تحلى بها بطل الرواية "بدر" فرغم أنه في الثانوية العامة حصل على المركز الثالث على مستوى الجمهورية بمجموع كبير يؤهله للالتحاق بكلية الطب، التي كانت تحلم والدته أن يدرس بها، أصر على دخول كلية العلوم، حبًا في العلم والاختراع، وهنا يوجه رسالة، مفادها أن نختار الكلية التي تطلق عنان أفكارنا، وتساير مواهبنا وقدراتنا والتي نتفوق فيها ونفيد وطننا، وهو ما فعله أيضًا أشرف ابن خالة بدر، الذى فضل كلية التربية الرياضية برغم حصوله على 95%.
وفي موقف آخر يقدم لنا صورة المرأة الشريفة العفيفة، التي تعرف كيف تحافظ على شرفها، وترد سهام أي طامع إلى نحره، من خلال السيدة "درية" أم بدر، التي اضطرت للعمل في المحل الذي كان يعمل فيه زوجها قبل وفاته، وعندما وجدت أن صاحب المحل يتحرش بها، ويسيء الظن بها، ويعرض عليها أن ترافقه وتعينه على إتمام إحدى الصفقات تنهره بشدة، وتلقنه درسًا قاسيًا قائلة: "يبدو أنك قد أسأت الفهم، وفقدت القدرة على التمييز بين معادن النساء، فمثلي لا يغريها بريق الذهب".
ويشير الناقد الأدبي د.يوسف نوفل، إلى نقطة تفوق وتميز أخرى عندما قال: "في العمل السردي البديع (إسكندراني من بوسطن) للسارد الفنان خليل الحداد، نرى كيف يصنع الإنسان المكان والزمان معًا، ما يجعل "الزمكانية" من صنع النمط البشري الذي يتصدر السرد، ويأخذ بناصيته نحو المصائر والنهايات، والأحداث والأفعال.
وبمزيج من الواقع والفانتازيا نجد بطل السرد في رؤيا منامية، أو حلم خارق، يتجاوز قدرات البشر، فينطلق من الواقع، ويطوّع هذا الواقع، متحديًا ما جابهه من تحديات تجابه النوابغ والنابهين، منذ كان في المرحلة الإعدادية، حتى يتذكر حلما على شريط فيديو للكاتب خليل الحداد نشر بالعدد 835 من مجلة ماجد 1995، اشترته أم البطل من شارع النبي دانيال، وفي ذلك تأكيد أن العبقرية تحقيق للأحلام الكامنة الموّارة داخل النفس، وأن الواقع كثيرا ما يكون تحقيقا للأحلام.
وتنوع المحيطون بالشخصية الرمز بين: أساتذته، وزملائه بالمدرسة، والشاذ منهم: سيد الدكش الحاقد عليه، ومن أيّده من أهله ومن البلطجية أمثاله، وعنصر غير عربي يشير إلى طبيعة المجتمع المصري الذي استوعب الحضارات عبْر القرون، حيث الجدة الشركسية المنحدرة من القوقاز، فرارًا من بطش الإمبراطورية الروسية، وهي التي تبنّتْ أم بدر، ومن المحيطين به مواجهته الإجرام المحترف "المافيا"، ثم قلبه بين سارة الإسكندرانية، ولورين الأمريكية...إلخ.
وقد مضى السرد مع الحدث الذي تم تحققه، فكانت "أفعال" السرد، في معظمها وأعلبها "حازمة صارمة"، لا تلجأ للمضارع القابل للتحقق، أو للاستقبال؛ بل تلجأ للفعل "الماضي" الذي تم تحقيقه بالفعل، متحدّيًا الواقع والصعوبات، وذلك منذ الجملة الأولى في السرد:
ومراعات لاتساع آفاق السرد وفضاءاته، مضى السرد متراسلا مع أنواع القول الأخرى، غير السردية، مفسّرًا جوانب السرد، موظّفًا المعلومة التاريخية، مثل حصول أحمد زويل على جائزة "وولف برايز العالمية" في إسرائيل 1993، وفوزه بجائزة نوبل في الكيمياء 1999، والحديث عن الفيمتو ثانية، ومن قبله تجاهل "نوبل" لكل من: "تولوستوي"، و"برناردشو" عام 1901، وموظفًا المعلومة الصحية: اليكسيثيميا: نقص الانسجام النفسي، وموظفًا الأغنية القديمة:
"ليه يابنفسج بتبْهج وانت زهر حزين".
وموظفًا الشعر الفصيح المغنّى، وهي قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي:
ومشينا في طريق مقْمر تثب الفرحة فيه قبلنا
هكذا انتقل بنا السرد مع الزمان والمكان من: الإسكندرية حتى الولايات المتحدة الأمريكية، مؤكّدا أن الإنسان ـ بطل السرد هنا ـ هو صانع الزمان والمكان.
[email protected]