Close ad

أيام مع نجيب محفوظ (3)

26-2-2020 | 17:16

لقد فرضت نوبل التزامات على الأستاذ نجيب محفوظ؛ شعر معها بأنه بات بالفعل موظفًا لدى جائزة نوبل، فقد اضطر إلى الارتباط بمواعيد مع عرب وأجانب وبإجراء حوارات ولقاءات مع دبلوماسيين ومسئولين ومثقفين وإعلاميين وزوار من الداخل والخارج؛ يريدون رؤيته والتصوير معه، وكان يشكو من ضوء فلاشات الكاميرات الذي يؤذي عينيه.

ولم يكن الأستاذ نجيب قبل نوبل مضطرًا إلى أشياء مثل هذه على الإطلاق، كان يعيش في حرية تامة، والتزاماته هي التي يلزم بها نفسه.

وفي عام 1970 أصدرت مجلة "الهلال" الشهرية عددًا خاصًا عن نجيب محفوظ, قبل الجائزة بـ18 سنة، وضمت مقالا بديعًا للكاتب الساخر محمد عفيفي بعنوان "نجيب محفوظ رجل الساعة".. وكان يقصد ساعة يده حاليًا وساعة جيبه عند بدء معرفته به، ومحمد عفيفي أحد مؤسسي شلة "الحرافيش".. كتب أن محفوظ ينظر في الساعة ليدخن سيجارته، ولا يخرج العلبة مرة أخرى قبل مرور ساعة.. وكما أن سكان كونسبرج كانوا يضبطون ساعتهم على موعد خروج الفيلسوف كانت لنزهته اليومية، كذلك فإن جيران نجيب محفوظ يستطيعون ضبط ساعتهم علي مواعيد خروجه وعودته.

يكتب في ساعة محددة، يتوقف عن الكتابة في ساعة محددة، يلتقي أصدقاءه في ساعة محددة ويغادرهم في ساعة محددة، ويدخل على "الحرافيش" في الهرم كل خميس بكيلوجرام من الكباب يحمله من العباسية.. يسافر إلى الإسكندرية في الأول من شهر سبتمبر من كل عام مع الأسرة في تاكسي، ويتوقف في برج المنوفية.

وفي الإسكندرية له موعد وصول يومي إلى كازينو ومقهى بترو ليتواصل مع الأستاذ توفيق الحكيم.. أما جائزة نوبل فقد قلبت كل ذلك النظام ـ تقريبًا ـ رأسًا على عقب، لكنه حاول باستمرار أن يحافظ على عاداته.

فقد اضطر لأحاديث صحفية وتليفزيونية كثيرة لم يكن ليقبل بإجرائها على هذا النحو المتسارع قبل نوبل، كما أنه وافق على الذهاب إلى قصر الرئاسة مرتين، الأولى باختياره، والثانية بدعوة وجهتها له وزارة الثقافة.

أما الأولى فكانت بعد أن تلقى مكالمة هاتفية ثم برقية من الرئيس حسني مبارك في يوم فوزه بالجائزة، الخميس 13 أكتوبر 1988 هذا نصها: أسعدني كما أسعد المصريين جميعًا هذا التقدير العالمي الرفيع بحصولكم على جائزة نوبل في الأدب، وهو فيما أعلم أسمى ما يمكن أن يصل إليه كاتب ومفكر ورائد ثقافي من مكانة على المستوى الدولي، وهو اعتراف منصف بما أثرى به قلمكم الموهوب المجتمع العالمي من قيم جليلة وأهداف سامية تعز إنسانية الإنسان وتضيء الطريق إلى الحب والإخاء والترابط في عالم يموج بالصراعات المادية التي تهدد المثل العليا والقيم النبيلة، وإنني إذ أهنئكم من صميم قلبي.. فإنني أرى في هذا التقدير تكريمًا للأدب المصري واعترافًا بالأدب العربي معبرًا عن نبض مجتمعنا وتطلعه إلى آفاق الخير والجمال، إن هذا التكريم الذي يحدث لأول مرة لأديب ومفكر مصري هو تكريم لمصر التي أعطيتها ثمار فكرك ونبض قلبك وأجزلت لها العطاء، ولك كل تحياتي وتقديري واحترامي..

ورد محفوظ فورًا في نفس اليوم وبعد سهرة الحرافيش ركب تاكسيًا إلى القصر الجمهوري لكي يكتب اسمه في دفتر التشريفات موجهًا الشكر للرئيس.

أما المرة الثانية فقد كانت بعد الجائزة بثلاثة أسابيع حيث منحه الرئيس مبارك قلادة النيل في احتفال كبير بقصر الاتحادية الذي كنا ندخله ـ أو عدد كبير منا ـ لأول مرة.. ولم أرتح بعد ذلك أبدًا لقول الابنة الكبرى لمحفوظ "أم كلثوم" أخيرًا في برنامج تليفزيوني إن قلادة النيل تلك مزيفة، أي ليست من الذهب الخالص.

وقد ألقى مبارك كلمة مكتوبة أعرب فيها مجددًا عن سعادته بالجائزة ومعانيها ودلالات فوز محفوظ بها.. ورد محفوظ بكلمة قصيرة مرتجلة، قال: أما الشكر فهو بلا حدود، وأما التعبير عنه فهو يفوق قدرتي على الحديث، وأعتذر عن تقصيري.. تقبل (مبارك) دعائي لك بالتوفيق في خدمة الوطن وطول العمر والصحة والسعادة.. إن هذا الحفل الذي تفضلتم ودعوتم إليه زملائي النبهاء وأساتذتي الكبار وضيوفنا الذين زادونا بحضورهم نورًا على نور، لهو برهان حي على رعايتكم للثقافة والمثقفين وتشجيع وأمل لكل مجتهد.

أما بطل واقعة القلادة المزيفة فهو صائغ (جواهرجي) كما جاء على لسان "أم كلثوم"، ذهبت إليه والدتها السيدة عطية الله في اليوم التالي لتسلمها بعد أن شكت في القلادة، ليقول لها إنها مِن الفضة المطلية بالذهب، وليست ذهبًا خالصًا كما يفترض.

وأضافت أن والدها الذي لم يعلم بأمر تلك الحفلة إلا قبل إقامتها بساعات قليلة، رفض أن يعلن الأمر، وقد سلمت الأسرة القلادة التي تزن نحو نصف كجم إلى صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة لتكون ضمن مقتنيات متحف يحمل اسم محفوظ، والذي افتتح أخيرًا في وكالة "أبوالدهب" أمام الجامع الأزهر.

وكانت مصلحة سك العملة التي تصنع القلادات أكدت سلامتها، وبالتالي فالمسألة برمتها مجهلة، وتم البناء على المجهول، وانتقاد عصر مبارك بأكمله.

والقصة أثيرت بعد وفاة محفوظ أعرف أنه لم يكن ليسمح أو ليهتم بها, هو الذي لا يعنيه سوى كتابته، وهو أكثر الأشخاص في العالم تسامحًا، وعندما علم بالاسم من استغلوا حجب "أولاد حارتنا" في مصر لتحقيق مكاسب ضخمة، تجاوز الأمر، وبخلاف التسامح، فقد كان من ظرفاء العصر، وكتبت قبل أكثر من عامين في بوابة الأهرام عن "الصائغ العبقري" الذي تسبب في ضجة عابرة، هو الذي علق على تمثاله في ميدان سفنكس، قائلا: (إنه جميل.. ولكن يبدو أن النحات تأثر برواية "الشحات")، وضج الجميع بالضحك.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة