عصر ما بعد الحداثة يتميز بثورة وثروة المعرفة؛ بمعنى تزايد كم المعارف بشكل كبير وسريع بما يمثل ثروة كبيرة في المعرفة بكافة صورها بوجه عام، وهذا في حد ذاته ميزة كبيرة وتحد كبير في نفس الوقت للعلماء والإنسان بوجه عام، فهو ميزة لكثرة المعلومات وتوافرها بسهولة للجميع، حيث يمكن من خلال جهاز التليفون توفير معلومات كثيرة عن أي ظاهرة أو مشكلة كان توفيرها منذ عقود قليلة يحتاج لأسابيع كثيرة، ولكن التحدي أن ذلك يستلزم معرفة موسوعية شاملة لعدة تخصصات؛ حيث أصبح الانغلاق على تخصص، وهذا يعني ضرورة الحاجة للثقافة الموسوعية، ومزيد من القراءة والتعلم المستمر لمعظم فروع المعرفة بوجه عام.
وهذا هو المنظور البيئي الشامل لكافة الظواهر والقضايا بوجه عام، فمثلا قضية الإرهاب لها جانب أمني بالطبع، ولكن المشكلة أكبر من ذلك لارتباطها بأبعاد اجتماعية وتكنولوجية وطبيعية عديدة، حيث يزداد الإرهاب مع انتشار الفقر والجهل وغياب العدالة البيئية بمفهومها الشامل، كما يرتبط لحد ما بالمسكن العشوائي ونوعية المقررات الدراسية والمبنى المدرسي ومدى توافر الأنشطة الرياضية والفنية في المدارس ونوعية المقررات الدراسية ونوعية الاختبارات.
كما يرتبط بالبيئة الطبيعية، حيث يسهل انتشار وتمركز هذه الجماعات في الصحراء والأطراف والحدود، وهكذا معظم المشاكل لا يمكن استبعاد المنظور البيئي الشامل من تحليلها، ومن ثم التشخيص السليم الذي يساعد على مواجهة المشكلة والحل، فمثلا مشكلة التأخر الدراسي للطلاب ترتبط بالطبع بحالة الطالب وأسرته ومسكنه ومدرسته والحي والأسرة والمعلمين، والأحوال الاقتصادية والأسرية، وغيرها.
فعصر ما بعد الحداثة يتميز بتداخل العلوم والمعرفة، ولم يعد التخصص الدقيق وحده يلائم مشكلات العصر، ولم يعد الإصلاح الاقتصادي منفردًا طريقًا للنمو والتنمية إن لم يصاحبه إصلاح شامل من المنظور البيئي الشامل، والدليل على ذلك أن معدلات النمو الاقتصادي لنظام مبارك في عقده الأخير وصلت لنحو 7% وهو معدل اقتصادي عال جدًا بالمقاييس الاقتصادية، ومع ذلك خرجت عشرات الملايين لإسقاطه؛ مما يعكس عدم رضا الشعب؛ لأن الإصلاح الاقتصادي منفردًا، وإهمال التوزيع العادل للثروة، وإهمال التعليم والصحة والأبعاد الاجتماعية؛ كانت نتيجته النهائية الفشل والغضب الشعبي، ولذلك تركز المراكز البحثية والعلمية الحديثة على الدراسات البينية التي تعتمد على تداخل التخصصات والرؤية الشاملة والحقيقية.
وتبنى مفكر مصر الكبير جمال حمدان - سباقًا - هذه الرؤية والفلسفة، وهذا واضح في كل كتاباته، وخاصة شخصية مصر، وبالطبع كان الحصول على هذا الكم من المعرفة والثقافة الموسوعية في عصره غاية في الصعوبة والجهد، حيث سخر عمره كله للحصول على هذه الثقافة، وتفرغ لذلك وضحى بالأسرة والمال والسيارة وكل شيء للحصول على هذه المعرفة والثقافة الموسوعية الشاملة، فهو بلا جدال أستاذ في التاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن القومي قبل أن يكون أستاذًا في الجغرافيا.
وفي عصره لم يكن هناك شبكة الإنترنت وسهولة الحصول على المعلومة مثل الآن، فجمال حمدان هو القدوة وهو أفضل مثال للعالم الموسوعي، وهو عالم المستقبل وليس أمام الأجيال القادمة أي عذر للسعي للوصول للمعرفة البيئية الشاملة في عصر الإنترنت وثورة وثروة المعرفة التي أصبحت فعلا بين أيدينا وقدوتنا جمال حمدان، الذي وصل لهذه الثقافة بتكنولوجيا أشبه بالجمل، ولكن الجيل الحالي معه طائرة توصله بسهولة لهذه المعرفة، ولذلك ظهر مفهوم التنمية المتواصلة أو المستدامة التي تركز على المنظور البيئي الشامل للتنمية البشرية والمجتمعية قبل الاقتصادية ويدخل في نطاقها كافة الأبعاد الصحية والهندسية والزراعية وخلافه، فهي تنمية شاملة لكافة الأبعاد البيئية المتفاعلة مع الإنسان والمؤثرة، بالتالي على رفاهية الإنسان وتحسين نوعية حياته من المنظور الشامل، وبالتالي فإن المنظور البيئي الشامل لم يعد رفاهية وخاصة بعد ثروة وثورة المعلومات وسهولة الحصول عليها، وهذا يلقي بالمسئولية على المهتمين بالتعليم والثقافة في مصرنا الحبيبة، فلم يعد مقبولا في مناهج التعليم الفصل التام بين الدراسات العلمية والاجتماعية، بل أهمية مراعاة المنظور البيئي الشامل في مناهج وطرق التدريس، ومن هنا أهمية تدريس كتاب "شخصية مصر" الحجم الصغير كمقرر إجباري لجميع طلاب المرحلة الثانوية، والاسترشاد به كنموذج مبكر لهذا العالم الجليل والمفكر الإستراتيجي جمال حمدان، برغم الصعوبات الضخمة للحصول على كل هذه المعارف في هذا الزمن، هذا فضلا عن أهمية محتويات هذا العمل المميز، والذي لا يماثله أي مقررات دراسية أخرى عن تاريخ وجغرافيا وأمن مصر القومي، وهذا حق لكل مصري أن نوفر هذا الكتاب كمقرر دراسي هام، ومثال عملي على المنظور البيئي الشامل والثقافة الموسوعية التي أصبحت ضرورة حتمية لعصر ما بعد الحداثة.