نظرية ما بعد الحداثة ترى أنه ليست هناك حقيقة مطلقة، وأن الحقيقة نسبية "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"، وبالتالي ليس هناك من يملك الحقيقة المطلقة، ومن هنا فالتعليم الحديث يبحث فيه الطالب مع المعلم عن الحقيقة؛ لأنها ليست ملك المعلم وحده، ولا يوجد مقرر ثابت، بل موضوعات يبحث عنها الطلاب مع المعلم، وعلى المعلم إرشاد الطلاب لوسائل البحث العلمي عن الحقائق، وهذا يقتضي تغييرًا شاملًا في منظومة التعليم، مع ملاحظة أنه ليس هناك نظام ثابت يصلح لكل المجتمعات أو البيئات؛ حيث لكل بيئة ما يناسبها وما قد يصلح للغرب قد لا يصلح في مجتمع شرقي مثلا.
وبجانب هذا هناك كثير من المهن سوف تنقرض قريبًا في مقابل زيادة الاحتياج لمهن أخرى؛ خاصة الخاصة بالروبوت والكمبيوتر والعلوم البيئية والسياحة، وغير ذلك، وفى خلال سنوات قليلة يتوقع الاستغناء عن نحو ثلث الأعمال أو العاملين في المهن الحالية بعد نحو عشر سنوات فقط، كما سبق أن أوضحنا مما يستدعي سرعة البحث والدراسة لمواجهة مستجدات عصر ما بعد الحداثة على كافة المستويات والأصعدة العلمية؛ بداية من مراحل التعليم الأساسي إلى المرحلة الجامعية ثم مرحلة الدراسات العليا والبحث العلمي بوجه عام.
وأتمنى أن يكون هناك مؤتمر قومي لمناقشة قضايا ومشكلات التعليم والبحث العلمي في عصر ما بعد الحداثة ليشارك فيه كافة المهتمين من خبراء إلى مسئولين وقيادات الفكر والمجتمع بوجه عام؛ لمناقشة عدة قضايا منها على سبيل المثال ما يلي:
قضية إعداد الطلاب في الجامعات المصرية تبعًا للتخصص علمي وأدبي؛ حيث تشير إحصاءات عام 2017 مثلا أن عدد الجامعات المصرية 25 جامعة بداخلها 471 كلية منهم 252 كلية نظرية تضم ما يقرب من 2 مليون طالب بنسبة نحو 80% من إجمالي طلاب الجامعة وهنا المشكلة؛ لأن سوق العمل الآن تحتاج تقريبًا لعكس هذه النسب، وغدًا عصر ما بعد الحداثة ستكون الحاجة أكبر للتخصصات العلمية، وسوق العمل في مصر الآن بها كثرة وفائض كبير في التخصصات النظرية، ولذلك من الأفضل والطبيعي أن تكون الأغلبية للتخصصات العلمية من الآن فصاعدًا، وهذا يحتاج لتغيير كامل في إستراتيجية القبول بالجامعات وسريعًا؛ لأن الروبوت متوقع انتشاره خلال عشر سنوات، وتؤكد الدراسات أن كفاءة المحامي الروبوت الآن لا تقل عن 90% من المحامي البشري؛ مما يعني عدم الحاجة في المستقبل لكل هذه الأعداد من الخريجين، وتقريبًا نفس المشكلة لخريجي كليات التجارة وهاتان الكليتان تحديدًا تضم كل دفعة منهما في أي جامعة عدة آلاف يتجاوز الخمسة آلاف في بعض الأحيان؛ وذلك لآن هذه الكليات نظرية لا تحتاج لمعامل أو تكلفة عالية مثل الكليات العملية، ولكنها في النهاية مصاريف ضائعة حتى لو كانت محدودة، وتكون النتيجة زيادة البطالة في هذه التخصصات، مقابل عجز كبير في تخصصات علمية قد نضطر لاستيراد متخصصين بها بالمليارات، وهذا ينطبق على كثير من التخصصات الأخرى بوجه عام، وهذا بالطبع مرتبط بسياسات مرحلة التعليم الثانوي؛ حيث الأغلبية تتجه للتعليم الأدبي، والمطلوب تعديل هذه المنظومة، وهذا وحده يعني أننا إذا بدأنا اليوم للعام المقبل لتغيير نسب الأدبي والعلمي سنحتاج لنحو ست سنوات.
لكن المشكلة أكبر؛ لأن ذلك يرتبط بخريجي كليات التربية والمعلمين؛ لأنها في حاجة لتغييرات شاملة لكي توفر معلمين للدراسات العلمية في المدارس والجامعات، ومن هنا ضرورة إدراك أننا تأخرنا كثيرًا، وعلينا سرعة وضع إستراتيجية شاملة لتصحيح هذه الأوضاع، والزمن ليس في صالحنا.
وللأسف هذه حقائق عصر ما بعد الحداثة، والأوضاع الراهنة تشير إلى أننا نعيش عصر ما قبل الحداثة، وبعد ذلك هناك قضية المعلم؛ سواء أستاذ الجامعة أو المدرس؛ لأن العنصر البشري هو الأهم لإصلاح منظومة التعليم والبحث العلمي أو أي منظومة أخرى.
والعنصر البشري تحديدًا هو ثروة مصر الكبرى، وللأسف يمر المعلم المصري الآن - سواء في الجامعة أو بمراحل التعليم المختلفة - بأصعب فترة في تاريخنا من حيث تدهور المرتبات والرعاية والاهتمام الرسمي بوجه عام؛ حيث إن مرتب أستاذ الجامعة - وهو أعلى راتب في كل البلاد وكان ذلك في مصر الملكية والناصرية - أصبح أقل من راتب أي موظف حكومة في قطاعات عديدة مثل البنوك والكهرباء والقضاء والبترول وغيرهم، فهل المبدأ أن من يجلب إيرادات يحصل على راتب مميز؟ وخدمات التعليم والصحة ناتجها إنسان متعلم قوي؛ ثروة لا تقدر بمال.
هناك ظلم كبير على فئة المعلمين بوجه عام، حان الوقت لإعادة النظر فيها وسريعًا؛ لأن تدهور أحوال الأساتذة والمعلمين سينعكس سلبيًا على كافة قطاعات التنمية؛ لأن تدهور الجامعة يعنى خريجًا ضعيفًا، ومستوى متدنيًا من المهندسين والأطباء والمعلمين وكافة الخريجين والمهن.
وعلينا النظر في التجارب الناجحة؛ سواء في أوروبا أو الصين أو ماليزيا أو اليابان، وكيفية اهتمامهم بالمعلمين وبدون إصلاح شامل لأحوال المعلم؛ مقارنة بزملائه في القطاعات الأخرى لن تكون هناك نهضة علمية أو اقتصادية.
وتبقى أخيرًا قضية البحث العلمي؛ وهى تقريبًا نفس مشكلة المعلمين وأساتذة الجامعة؛ لأنه ببساطة لن يكون هناك بحث علمي متميز بدون باحث وأستاذ متميز؛ فالحلقات متشابكة ومرتبطة ببعضها بعضًا، ويكفي الإشارة السريعة لبعض الحقائق أن ما ينفق على البحث العلمي في مصر أو الوطن العربي بوجه عام أقل من نصف في المائة من الدخل القومي في مقابل 4% في إسرائيل، وأن إنتاج إسرائيل من البحوث العلمية وجوائز نوبل في العلوم أكثر بكثير من كل إنتاج وجوائز الدول العربية مجتمعة، فهل بعد ذلك حديث؟! اللهم قد بلغت اللهم فاشهد!!