أحدثت ثورة الاتصالات تغييرات جوهرية، امتدت للمجال السياسي، بالإضافة إلى فشل النظم السياسية المختلفة بوجه عام في تحقيق طموحات شعوبها؛ مما أكد مضمون نظرية ما بعد الحداثة التي ترفض تعميم أي نظريات سابقة؛ لأن هذه النظريات شكلت نظمًا سياسية واقتصادية أدت إلى تدهور الأوضاع البيئية والاجتماعية لمعظم البشر؛ مما يهدد بفناء البشرية، مع انتشار الظلم الاجتماعي، والتفاوت الرهيب في توزيع الثروات، وانتشار التطرف والإرهاب، والقيم المادية، وازدواجية المعايير، وغير ذلك من تدهور القيم الإنسانية، والحالة النفسية للإنسان بوجه عام، والخوف من مستقبل أسوأ في معظم جوانب الحياة، وتأتي النظم السياسية لعصر الثورة الصناعية في مقدمة الأسباب التي أدت لكل هذه المشكلات؛ لأنها هي التي قادت عمليات التنمية.
وبالتالي تؤكد نظرية ما بعد الحداثة فشل النظم السياسية والاقتصادية القائمة في العالم، سواء النظام الشيوعي، أو الرأسمالي، والأساليب والوسائل السياسية التابعة لهما مثل: الأحزاب السياسية، والواقع أن بعضًا من هذه المتغيرات قد حدثت فعلًا بسقوط النظام الشيوعي، وأيضًا هناك مؤشرات قوية على تراجع كبير وواضح للنظام الرأسمالي وأدواته؛ مما ينبئ بسقوطه مع ظهور ملامح وبوادر نظم جديدة لم تتشكل ملامحها الأساسية بعد، ولكن التغييرات قادمة وأدت فعلًا بوضوح؛ حيث قامت الرأسمالية على عدة مبادئ، أهمها: حرية السوق، المنافسة الحرة، وإقامة نظام ديمقراطي يعتمد على الأحزاب السياسية والديمقراطية كوسيلة أساسية؛ للوصول للحكم من أجل حياة ومستقبل أفضل للشعوب، وأن الرأسمالية هي الوسيلة الوحيدة للتنمية والتقدم، وأنه على الدول الكبرى تعميم هذا النموذج في دول العالم الثالث مثل تجربة العراق.
والواقع أن السنوات السابقة أثبتت وأكدت زيف وكذب كل هذه الأسس، التي قامت عليها الرأسمالية، فمثلًا بالنسبة لحرية السوق أعلنها ترامب صراحة في صراعه مع الصين حينما قال: ليست هناك حرية سوق بعد اليوم، نحن نريد عدالة السوق، وفرض ضرائب عالية على عدة منتجات صينية، ثم امتدت هذه الضرائب إلى عدة بلدان أوروبية، وتصاعدت بعد ذلك القيود والضرائب بين الدول الرأسمالية نفسها، وسبق ذلك عند أزمة الرهن العقاري عام 2008 أن اضطرت عدة دول في مقدمتها أمريكا للتدخل الحكومي لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، ووقتها أعلن ساركوزي رئيس فرنسا: لقد انهارت الرأسمالية.
ونشرت صحيفة الإيكونومست على غلاف صفحتها الأولى في 16 فبراير الماضي عنوان اشتراكية جيل الألفية الجديد وانتشاره في أوساط الشباب في مقابل تراجع الفكر الرأسمالي، كما ظهر في العام الماضي كتاب باتريك دينين لأحد أساتذة جامعة نوتردام باسم "لماذا فشلت الليبرالية؟" آثار اهتمام وإشادة كبيرة على جميع الأصعدة، وهو يركز على فكرة أن الليبرالية تعاني اليوم أزمة عميقة؛ حيث إن جوهر الليبرالية يكمن في تحرير الأفراد من القيود، وتحسين مستوى ونوعية الحياة، ولكن الواقع على الأرض ارتفاع معدلات عدم المساواة، وغياب العدالة وزيادة الانقسامات، ومن ثم الصراعات السياسية وإحداث العنف داخل المجتمعات، وفقدان الثقة في الحكومات والأحزاب القائمة.
وفي النهاية، يرى الكاتب أن الديمقراطية الغربية فقدت شرعيتها؛ مما أدى لتصاعد التيارات والأفكار المتطرفة في كافة صورها، خاصة اليمنية وأفكار الشعبوية وغيرها في الدول الرأسمالية، وفي مقابل ذلك نجحت الصين الشيوعية وبدون ديمقراطية غربية في تحرير نحو 850 مليون صيني من الفقر وفقًا للبنك الدولي في أقل من أربعين عامًا، ومن ثم أيهما أفضل ديمقراطية غريبة أدت لزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء أم شيوعية حررت 850 مليونًا من الحاجة لطعام ومسكن وعمل وتعليم مناسب، هذا تساؤل لكل فرد حرية الإجابة وسوف تختلف الإجابة من فرد لآخر؛ مما يؤكد نظرية ما بعد الحداثة إنه ليست هناك حقيقة مطلقة، وأن الحقيقة نسبية، وبالبنسبة للصين كان متوسط دخل الفرد عام 1980 نحو 26 دولارًا شهريًا، ووصل العام الماضي إلى نحو 1400 دولار شهريًا، أليس في ذلك خدمة للإنسانية وإعجاز كبير للبشرية، وبدون نهب لثروات العالم الثالث؛ حيث ارتبط نجاح النظم الرأسمالية بالاستعمار المباشر وغير المباشر لكثير من الدول النامية واستعباد الشعوب ونهب ثرواتها؛ حيث يذكر المؤلف إدوارد بابتيست في كتابه نصف القصة الغائبة أن النظام الرأسمالي ارتبط بالاستعمار لبلدان العالم الثالث ونهب خيراتها.
ويكفي أن الغرب بنى نهضته على أسعار زهيدة جدًا للطاقة؛ حيث إلى عام 1973 لم يتعد سعر برميل البترول سوى دولارين تقريبًا، وفي مجال السلاح تحتكر أمريكا وحدها أكثر من نصف مبيعات السلاح في العالم، وخلال أسبوع واحد العام السابق حصل ترامب على صفقات تعدت 600 مليار دولار في زيارته للشرق الأوسط، ومع ذلك كان متوسط النمو الاقتصادي لأمريكا خلال السنوات الأخيرة نحو2% في مقابل نمو للصين تراوح ما بين 7و10% والأحزاب التقليدية تراجعت شعبيتها في مقابل ارتفاع واضح لأحزاب جديدة مثل أحزاب الخضر، فقد حصلت على 21% من الأصوات في ألمانيا، وفي المركز الثاني، وفي فرنسا حصل الخضر على المركز الثالث بنسبة 12%، كما زادت أعداد الأحزاب التي نشأت من خلال الإنترنت ويرى البعض انتشار هذه الأحزاب في المستقبل، وتراجع الأحزاب التقليدية وأهميتها.
ويؤكد ذلك نجاح عدد من الرؤساء ليست لهم خبرات حزبية أو سياسية سابقة، والمثال الواضح نجاح ترامب أمام هيلاري كلينتون ذات الخبرات الحزبية والسياسية الكبيرة، وأخيرًا نجاح الرئيس التونسي بدون هذه الخبرات، وقد يرجع هذا إلى أن التكنولوجيا الحديثة وفرت كثيرًا من الوقت والجهد على السياسيين بسرعة نقل الآراء والتفاعل المباشر مع الجمهور؛ مما حد من دور وأهمية الأحزاب السياسية، خاصة أن كثيرًا من الأحزاب السياسية كانت تعمل لخدمة حفنة قليلة من رجال المال والأعمال ولصالحهم من خلال جماعات الضغط السياسية، مثل: الإيباك وغيرها كثير.