مسلسل "ممالك النار" أول عمل حقيقي، وأول خطوة في الطريق الصحيح؛ لمقاومة العدوان التركي، ويوثق المسلسل الحقبة الأخيرة من دولة المماليك، وسقوطها على يد العثمانيين في بدايات القرن السادس عشر، مسلطًا الضوء على مرحلة في التاريخ العربي ثرية في الأحداث، كاشفًا العديد من الحقائق حول هذه الحقبة؛ لأنه يقدم رؤية مختلفة عن الرؤية التركية لتاريخنا، وبداية لحرب القوى الناعمة التي بدأها الأتراك مبكرًا، في ظل غفلة من صناع الإعلام والدراما العربية، فقد بلغ إجمالي إيراد تركيا من المسلسلات 500 مليون دولار، العام الماضي فقط.
ولهذا فإن "ممالك النار" هو بداية لتصحيح ما قاموا به على مدار سنوات، حاولوا فيها تزييف وعي المشاهد العربي من خلال مسلسلات تاريخية تشرف عليها الدولة وتمولها مثل: (قيامة أرطغرل، وعبدالحميد الثاني، وحريم السلطان، ومحمد الفاتح، وأخيرًا المؤسس عثمان)، محاولة تجميل وجه الدولة العثمانية الملطخ بدماء الأبرياء على مدار أكثر من 400 عام، كتبت بدماء شعوب المنطقة.
ومن المعلوم، الآن، أن الدراما هي السلاح المستقبلي البديل في الصراع السياسي؛ حيث لا يمكن استبعاد الفن عن السياسة، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما، وخصوصًا بعد تطور وسائل الاتصال والثورة التقنية الهائلة، التي من خلالها تستطيع أن تجسد بها كصورة ما لا تستطيع أن تعبر عنه بالرسائل المقروءة، واستغلال النص الدرامي الذي يتيح له الجانب المهني لصناعة الدراما في أن تبعث برسائل لا تستطيع السياسة إرسالها؛ نظرًا لأن في العمل الدرامي نستطيع إضافة أو استبعاد أي موقف في السيناريو الذي لا يخدم التسلسل الدرامي، وخلق المفاجأة والإثارة وتقديم الرسالة المطلوبة، حيث يحق لكاتب الدراما أن يتجاهل الأحداث التاريخية الحقيقية، ويقوم باستبدالها بمواقف لم تحدث في تلك المرحلة؛ ليدعم بها مسار العمل الدرامي لغرض إرسال رسائل معينة أو للتشويق والإثارة، في حين لا تستطيع الرسائل السياسية أن تستبدل مواقف لم تحدث بأخرى، وهذا ما نراه الآن من صراع سياسي يحل محله بديل آخر هو صراع الدراما.
وبغض النظر عن الأداء والإخراج والإنتاج الجيد لمسلسل "ممالك النار"؛ فإن المضمون في النهاية يقول، إن جماعة بربرية من الأتراك حاربت جماعة من الجركس المماليك في معارك دارت على أرضنا؛ للفوز بحكمنا بمنطق الحكم لمن غلب في عودة لعصور الجاهلية، وما كان علينا الاحتفاء بهؤلاء الغزاة لأوطاننا بعدما عاثوا في الأرض الفساد والخراب.
وبعدما تم إنهاك دولة المماليك في دوامة الصراع على السلطة؛ حيث قام النظام المملوكي على نظام ملكي فريد من نوعه، يتم بموجبه انتقال السلطة من ملك إلى آخر؛ بناء على قاعدة المُلك لمن غلب، وليس بنظام الوراثة، كما كان على الفائز بالعرش سداد فواتير الدعم الذي تلقاه من أمراء المماليك الذين أوصلوه للعرش؛ بتعيينهم في مناصب تبسط سيطرتهم على مفاصل الدولة، وتدر عليهم مكاسب مربحة، وكان على الشعب أن يتحمل تحصيل الضرائب بصورة مضاعفة؛ لعدم اعتراف الطرف الفائز بالضرائب المدفوعة للطرف المهزوم أو التابع للحاكم السابق.
كما تعرضت مصر للعديد من المجاعات - وصلت إلى 20 - منها مجاعة عام 1295، وعام 1403 - تم رصد حالات أكل لحوم بشر - ناهيك عن الأوبئة والجفاف والفيضانات، وارتفاع أسعار السلع الغذائية التي كانت قاسمًا مشتركًا طوال فترة حكمهم؛ الذي امتد لمدة قرنين ونصف تقريبًا (1250 – 1517) محققين إنجازات عسكرية مهمة، والكثير من الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وخلفوا من ورائهم الكثير من البذخ المادي والفساد الذي أطاح بدولتهم في نهاية الأمر؛ عندما نصبوا طومان باي سلطانًا، وبدأوا في التجهيز لصد العثمانيين، وجحافل السلطان سليم الأول، إلا أن تكاسلهم وتقاعسهم وخيانة بعضهم كان كفيلًا بسقوط الدولة، وهزيمتهم في معركة الريدانية، ومن ثم استيلاء العثمانيين على مصر؛ وانتهت دولة المماليك في موقعة "مرج دابق".
وعمومًا الدراما التاريخية؛ سواء المصرية أو العربية لا تزال في مهدها؛ برغم وجود النصوص الرائعة والأحداث الحقيقية والأبطال الملهمين في كل قطر عربي، وتوافر السوق ولهفة المشاهد العربي.
والأمر هكذا لا يزال الوقت ملائمًا للاهتمام بهذه الصناعة لما ستؤول لها مستقبلا؛ حيث ستكون سلاحًا ناعمًا يدخل به حرب الإعلام، وحرب التنافس الاقتصادي في عالم التقنية.. عالم الريبوتات وعالم الأقمار الصناعية.