Close ad

نظرية ما بعد الحداثة وتفسيراتها لمتغيرات العصر

2-12-2019 | 13:10

نظرية ما بعد الحداثة هي تيار فكري جديد، ظهر كرد فعل لعصر الحداثة، وهو عصر الثورة الصناعية وما نتج عنه من مشكلات متعددة في كافة المجالات؛ بداية من تعاظم مشكلات التلوث، واستنزاف الموارد بمعدلات تفوق كل ما نتج من تلوث أو استنزاف منذ بدء الخليقة وحتى الثورة الصناعية؛ مما يهدد حياة البشرية واستمرارها، مع تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وانتشار الفقر والحروب، ونهب خيرات العالم الثالث، وازدواجية المعايير الدولية، مع انتشار القيم المادية وتراجع القيم الدينية والاجتماعية والفنية، وتطور أسلحة الدمار الشامل.

ولكل ما سبق بدأ بعض العلماء ينتقد عصر الثورة الصناعية أو الحداثة، ويطرحون أفكارًا جديدة عن عصر ما بعد الحداثة، وكانت البدايات من عدة عقود سابقة؛ حيث بدأ علماء الفلسفة وتبعها التخصصات الأخرى من هندسة إلى الموسيقى وعلم الاجتماع.. وغير ذلك من تخصصات؛ ولذلك فهي نظرية مرنة ونسبية، ويختلف علماؤها وتوجاهتهم والآراء حولها؛ نظرًا لتنوع واختلاف المرجعية العلمية والفكرية للنظرية.

وبوجه عام يعتبر كتاب الفيلسوف الفرنسي "ريتارد" "علم ما بعد الحداثة" من أهم الكتب البارزة في هذا المجال، وبرغم أن هذا المصطلح متغير بتغير الزمن، فإن البعض يعتبر ذلك مقصودًا بهدف عدم الجمود وأهمية التطوير المستمر؛ لأن لكل عصر مستجداته، ومن هنا أهمية المراجعة المستمرة من حين لآخر، وأن من يتجاهل ذلك يكون خارج عصره، وسيتراجع للخلف ويتخطاه الجميع.

ولذلك تؤكد نظرية ما بعد الحداثة أن الحقيقة نسبية، وليست هناك حقيقة مطلقة؛ فنحن الذين نصنع تلك الحقيقة، وثقافتنا تساهم في صنعها، وهذا يرتبط بفكرة أساسية لنظرية ما بعد الحداثة؛ وهي أن الاعتماد المطلق على العلم والتكنولوجيا خطر كبير على الإنسانية؛ لأنهما معًا العلم والتكنولوجيا مثل الحصان الجامح الأعمى قد يدمر كل شيء؛ لأنه مهما كانت قيمة العقل والتكنولوجيا فهي نسبية، ".. وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء 85)، ".. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" (يوسف 76).

وتؤكد ما بعد الحداثة أن الإيمان المطلق بالعلم والعقل والتكنولوجيا أدى إلى الكوارث الكونية المختلفة؛ مثل ثقب الأوزون وارتفاع دراجات الحرارة، وتغير المناخ وانتشار السلاح النووي وغيره من مشكلات، كما ترفض نظرية ما بعد الحداثة النظريات الكبرى والشمولية في المجالات الاجتماعية والسياسية وغيرها من مجالات؛ حيث إن لكل بلد ومجتمع خصائصه التي قد تختلف في بيئاتها الطبيعية أو الاجتماعية أو التكنولوجية عن الأخرى، ومن ثم فالنظرية التي قد تصلح للمجتمع الأمريكي قد لا تصلح للمجتمع المصري أو المجتمع الصومالي أو الهندي، كما أن اختلاف الزمان أيضًا يؤثر في صلاحية أو عدم صلاحية أي نظرية؛ بمعنى أن النظرية التي قد تكون مناسبة أمس لا تصلح اليوم، وهكذا..

ومن هنا ترفض نظرية ما بعد الحداثة كافة النظريات الكبرى أو النظم؛ مثل النظام الرأسمالي أو الشيوعي وأيضًا في المجال الاجتماعي ترفض ما بعد الحداثة تعميم النظرية الوظيفية أو الصراع.

وهكذا ترفض ما بعد الحداثة مبدأ التعميم لأي نظام أو نظرية، وبالنسبة للمستقبل فإن عصر الحداثة يرى أن المستقبل أفضل بالعلم والعقل والتكنولوجيا؛ بينما ترى ما بعد الحداثة أن الأمور تسير للأسوأ والقادم أخطر ما لم يتم تغيير هيكلي في عصر الحداثة، وهذا ما تنادي به نظرية ما بعد الحداثة.

وبالنسبة للدين نظرية الحداثة وعصر الثورة الصناعية يرفض سيطرة الدين، مقابل الاعتراف الكامل بالعقل والمنطق، ولكن ما بعد الحداثة ترى أن الأديان والمعتقدات الدينية بوجه عام هي نتاج ثقافة كل مجتمع، وللثقافة دور مهم في حياة الإنسان والمجتمع لا يمكن تجاهله، ويجب إعطاؤها المزيد من الاهتمام لآثارها المهمة على الإنسان والمجتمع.

ونظرية ما بعد الحداثة بوجه عام تهتم بالبيئة بمفهومها الشامل للأبعاد الطبيعية والاجتماعية والتكنولوجية، ومن هنا اهتمامها بالمتغيرات الثقافية والتكنولوجية وثورة المعلومات ومستجدات العصر في كافة الأبعاد؛ سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية والإعلامية وخلافه.

وأنه على الجميع عدم تجاهل كل هذه المتغيرات في كافة الميادين؛ خاصة أن سرعة المتغيرات التكنولوجية وأهميتها وتنوعها قد فرضت كثيرًا من التغيرات، ومازالت مفتوحة للمزيد والمزيد من التغيرات، وهذا بالطبع سينعكس على البيئة الطبيعية والاجتماعية في كافة أنحاء العالم بدرجة أو أخرى؛ مما سيؤدي في النهاية لتغيرات هيكلية وأساسية في مختلف جوانب الحياة، علينا جميعًا سرعة الاستعداد لها من خلال الدراسة والاستيعاب وإعداد البدائل؛ لمواجهة هذه المتغيرات الكبيرة الواقعة والقادمة في كافة المجالات، وهذا مجال أتمنى أن يشارك فيه الخبراء في كل التخصصات حول ما هو متوقع، وما هي أساليب المواجه أو المقترحات في كل مجال مثل الإعلام أو السياسة أو الاقتصاد والمجتمع.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
حضارة مصر بين الشرق والغرب (5)

حضارة مصر بين الشرق والغرب (5)

كورونا فرصة للاستثمار (5)

قال الدكتور محمد عبدالعال، رئيس مجلس النواب الأسبوع الماضي إن مصر قادرة على تحويل أزمة كورونا إلى فرصة للاستثمار؛ من خلال توطين الصناعة وزيادة الاهتمام بالزراعة.

كورونا وهجرة العقول (4)

تصاعد أزمة كورونا كشفت ضعف المنظومة الصحية في معظم دول العالم، وأيضًا ضعف منظومة البحث العلمي والتعليم في كثير من الدول؛ ومنها دول كبرى وعظمى، وبالطبع

من يدفع ثمن كورونا؟ (3)

كورونا لها تكلفة باهظة وثمن غال على الصحة والاقتصاد، والله سبحانه وتعالى وزع الأعباء الصحية على جميع بلدان العالم بأسره بحكمته وعدالته بين الجميع، ولم

بدائل السجون في عصر الكورونا

الهدف الأساسى من السجن إصلاح وتهذيب السلوك السلبى للأفراد الخارجين على قواعد المجتمع؛ ولكن الدراسات أثبتت أن السجون عادة ما تفشل فى تحقيق هدف الإصلاح والتهذيب

كورونا ونظرية النفايات

هناك نظرية في العلوم الإنسانية تسمى نظرية النفايات أو القمامة وباختصار تقوم على عدة عناصر تشمل بداية أن ندرس الشيء وعكسه فلكي نفهم الغنى يجب دراسة الفقر؛

رسالة مصر في إفريقيا (4)

​ولدت مصر إفريقية؛ حيث كانت هناك عدة أسر قوية كثيرة في شتى أنحاء مصر، وقامت عدة حروب فيما بينهم حتى انتهت إلى أربع أسر وهي التي يرمز إليها بالنحلة والبوصة

رسالة مصر وتاريخها والبحر الأبيض المتوسط (3)

رسالة مصر وتاريخها والبحر الأبيض المتوسط (3)

مصر أم الدنيا ورسالتها (2)

يعرض دكتور حسين مؤنس في كتابه أسباب انتشار جملة "مصر أم الدنيا" بتحليل تاريخي لهذه الحقيقة ولو عرف كل مصري قيمة هذه الأرض لما كفاه أن يعمل بيديه وعقله

مصر ورسالتها في فكر حسين مؤنس (1)

مصر ورسالتها في فكر حسين مؤنس (1)

ما بعد الحداثة والمعرفة البيئية وجمال حمدان (11)

عصر ما بعد الحداثة يتميز بثورة وثروة المعرفة؛ بمعنى تزايد كم المعارف بشكل كبير وسريع بما يمثل ثروة كبيرة في المعرفة بكافة صورها بوجه عام، وهذا في حد ذاته

ما بعد الحداثة والاقتصاد والبيئة (10)

ما بعد الحداثة ترفض عصر الحداثة ومشتملاته؛ خاصة النظم الاقتصادية التي أدت للمخاطر البيئية المختلفة التي نعانيها الآن، مثل: تغيرات المناخ، الدفء الحراري،

الأكثر قراءة