الأطفال هم ثروات الأمم، والكنز الدفين لها، والبذرة الخصبة لغدها المشرق، هذا الكائن الرقيق الذي تتجلى فيه فطرة الله النقية، والذي كلفنا برعايته والحفاظ عليه، ولأننا أمة تؤمن بأنه لا يمكن الانفصال عن الواقع حتى يمكن مسايرة الحضارات، كما تكره الانسلاخ عن الأصول مخافة التغريب وضياع الهوية، فإن ما يجب أن تدركه المجتمعات: حكومات، ومؤسسات، وأفراد، أن الطفل في العالم الرقمي محفوف بمخاطر غير محدودة أو مشمولة بسياج من الأمان، هذا العالم الذي أُلقي الأطفال بين يديه يحتاج إلى حرية غير مفرطة، وحرص لا يصل إلى درجة الانغلاق.
التطور الرقمي أصبح واقعًا محتومًا لا غنى عنه، ولا يمكن أن نغفل ما قدمه للإنسانية من خدمات ومصالح هائلة، يجب ألا يصطدم بقوانين اقتضتها طبيعة التطور والتعاقب بين الأجيال، وهو ما يظهر في عدم قدرة مجاراة العديد من الآباء الطريقة التي يستخدم بها الأطفال التكنولوجيا، فيصبح تعامل الأطفال معها كالقفزة الطائشة التي لا تختلف كثيرًا عن الانتحار، نتيجة عدم وجود المرشد والموجه في رحلة الفضاء الرقمي.
وفي غمار هذا التطور الكبير الذي حول كل شيء إلي أرقام، ما جعل هؤلاء الذين لا يهتمون سوى بالمادة غير مكترثين بغيرها، يسعون إلى تحقيق مكاسبهم دون النظر إلى الأخطار التي تتراكم فوق سماء المجتمعات، نتيجة الاستخدام غير المقنن للرقميات، خاصة هذه المجتمعات التي تتلقف كل ما يفد إليها دون مراعاة ما يتناسب مع ثقافتها، أو تاريخها، فتصبح مجرد رقم في عالم لا حدود له، عالم سادت فيه مقاييس المنفعة الشخصية، وفرض الهيمنة والسيطرة، من قبل قلة لا يدركون القيمة الحقيقية للطفولة.
وفي ظل صمت رهيب تجاه خطر يحلق حول الأطفال، ومحاولات البعض تحويلهم إلى مجرد رقم في عالم التكنولوجيا، نتيجة الاستخدام المفرط لها، تحرك شيخ الأزهر متكبدًا عناء الترحال بين البلاد، ليشارك قادة الأديان والعقلاء، بمؤتمر "تعزيز كرامة الطفل في العالم الرقمي" وينادي بأعلى صوته "أنقذوا الطفولة من هذه الجرائم التي تُنفذ ضدهم باسم التكنولوجيا"، واصفًا هذا الخطر بطائر يحلق فوق سماء مجتمعاتنا، يحمل في أحد جناحيه الخير والنفع، وفي الآخر يحمل أخطارًا جسيمة.
والآن.. لا يمكن لأي مجتمع أن ينعزل عن ركب الحضارة والتطور التكنولوجي الهائل، من دون إجراءات قوية وصارمة، تُتخذ ضد الانتهاكات والجرائم التي تمارس ضد الإنسانية عموما، والطفولة خصوصًا، مع ضرورة الاحترام الكامل للحضارات والثقافات المختلفة، وعودة المسئولية الكاملة للأسرة، والمؤسسات، كما يجب أن تراعى كل اتفاقيات الطفولة وثوابت الثقافات الأخرى، فلم يعد لدينا وقت لترف الحديث حول هذه الأخطار، فإن لم نوقفها فسوف تحملنا الطير على جناحها الخبيث فتلقي بنا في مكان سحيق.
وأخيرًا.. تحية إجلال وتقدير للإمام الأكبر، ولإخوانه من قادة الأديان السماوية، ومن معهم من الحكماء والعقلاء، الذين يعملون بلا هوادة ويسعون دون توقف، من أجل أن يحفظوا للطفولة جمالها، ويحمون براءتها.