كانت لي تجربة في حديقة زريادي في العاصمة الروسية موسكو.. دخلت قاعة مغلقة سوداء لكي أطير فوق معالم المدينة وأنا جالس مكاني.. ساعتها كنت أحسب أنني سأشاهد المدينة من أعلى.. كأنني فى منطاد أو في الطائرة وتنتهي الرحلة.. وبارك الله فيما رأيت وعرفت.
لكنني رأيت تقنية وفكرة مبدعة عبقرية؛ حيث جلست على كرسي له حزام أمان، يُعلق فى الهواء وتُصبح رجلك حرةً طليقةً بلا أرض وبلا مكان ثابت تستند عليه.
ورحلة الطيران تعتمد على تكنولوجيا متطورة تفاعلية.. فمثلًا هناك رشاشات مياه ذكية ترشك بالمياه عند المرور أمام نافورة، أو عند المرور أعلى احتفالات يستخدم المحتفلون فيها مياه لتجعل التجربة أقرب للحقيقة.. ولكنها لا تكتفي بالطيران وفقط؛ ولكنها تسقطك أحيانًا فوق السيارات أو في قاع بحيرة.. أو من أعلى ناطحة سحاب روسية.
ويساعد في تنفيذ الفكرة الكرسي الديناميكي الذي نجلس عليه فيهتز ويميل يمينًا ويسارًا.. ليُضفي إحساسًا حقيقيًا على التجربة.. ويُمسكنا ويمنعنا من السقوط حزام الأمان.
الصوت المجسم ثلاثي الأبعاد.. والشاشة السينمائية العالية الدقة والوضوح المقوسة أبرز ما تقوم على فكرة العرض؛ حيث العرض ليس أمامنا مباشرة؛ ولكنه أمامنا في كل الاتجاهات وتحت أرجلنا.
كذلك فواصل العرض بين منطقة ومنطقة تتم بعبقرية شديدة؛ حيث يتم تقطيعها سينيمائيًا إما بمرور طيور في السماء أمام وجهك أو طائرة أو حتى قطرات للمياه متناثرة في الهواء.
والعرض ليس نهارًا فقط ولكنه ليلاً أيضًا.. وإن اقتصر على موسكو فقط فلا بأس.. فهناك عرض آخر لكل معالم روسيا يطير بك من شرقها من أول جبال سيبيريا إلى غربها حتى شواطئ سان بطرسبورج.
وحين علمت من المرشد السياحي أن القاعة كانت نتاجًا لتعاون أمريكي روسي وإيطالى.. كنت أريد التصفيق مرتين.. مرة لأن العرض أكثر من رائع ومرة أخرى؛ لأن الثقافة قادرة على توحيد الفرقاء والخصوم السياسين.. فلا روسيا منعت الجمال ولا دول أوروبا وأمريكا بخلوا به.
والتعاون كان فى الحديقة الكبيرة العامة التى تضم قاعة الطيران حيث صممتها شركة أمريكية.. وقصة الحديقة هذه تستحق أن نرويها، ففى نهاية عام 1940، تم تأسيس قاعدة إسمنتية لما سيكون ناطحة السحاب الثامنة للزعيم الروسي الشهير ستالين.. واسم المشروع "زريادي" هو آخر المشاريع المتأخرة عن البناء والعمل فى ذلك الوقت.. وبالفعل لم يكتمل.
ثم في عام 1967، قام المهندس المعماري ديمتري شيتولين ببناء فندق على هذه القاعدة المتروكة المهملة لأكثر من 25 عامًا.. ولكن بعد 40 عامًا كاملة هٌدم الفندق.. وظل الموقع مهجورًا لمدة 6 سنوات.. إلى أن قررت حكومة موسكو إنشاء حديقة عامة متعددة الوظائف فيها مسرح مكشوف ومسرح داخلى.. ونباتات برية.. وجسر مُعلق على شكل قوس "هو الأشهر بين معالم الحديقة"، بالإضافة إلى قاعة الطيران التي زرتها.
موسكو بفضل حديقة زريادي.. والتطور الكبير الذي شهدته خلال السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعًا في أعداد السياح وصل إلى 23.5 مليون زائر.. أنفقوا ما يقدر بـ 13 مليار دولار أمريكي فى عام 2018.
حديقة نبتت من كتلة إسمنتية عتيقة وفندق مهدوم.. فتحولت إلى كنز يدر الملايين بفضل التعاون والتخطيط والثقافة.