لم يثقوا فيه برغم أنه أعطى لهم ما لم يقدمه إليهم أحد من قبله بهذا السخاء، فقد منحهم في فترة وجيزة ما كان يطمحون إليه منذ ميلاد فكرتهم الشيطانية في القرن السابع عشر، غير أن أطماعهم لا سقف لها، وقد أكد نفس المعنى الكاتب الأمريكي "دانيال ليبمان" في موقع "بوليتكو"، وقال إنه في الوقت الذي يوطد فيه ترامب علاقته مع نتنياهو ويضفي عليها الصفة الودية، ويقدم له العديد من الهدايا بشكل دائم منذ توليه رئاسة البيت الأبيض، كنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وتمزيق المعاهدة النووية مع إيران، فإن إسرائيل كانت تزرع أجهزة تجسسها على مكالماته.
وهذا ديدن الإسرائيليين والصهاينة يشكون في أصابع أيديهم، ويرجع ذلك إلى تنشئتهم القائمة على الخوف من الآخر، ورفضهم التصديق بعهوده مهما كان رباط قوة العلاقة بينهما، ويوضح التاريخ أن لدى الشخصية الإسرائيلية داء الاغتراب، ويعني انفصال الشخص عن غيره، والذي ترسخ فيها نتيجة اعتقادها الكاذب بتفوقها وبتميزهما عن شعوب العالم، بالإضافة إلى الشعور الملاصق للصهيوني أنه مضطهد دائمًا، وتتجلى صور الاغتراب في انعزالهم وحياتهم داخل الجيتو وسط المجتمعات الغربية خلال القرون السابقة، ومن السمات الأخرى للخوف من الآخر أنهم لا يظهرون الولاء لأحد غيرهم، حتى انسحب ضعف الثقة بين فئات مجتمعهم وأصابه الاضطراب والتأرجح من وقت لآخر.
وتكشف صحيفة يديعوت أحرونوت هذه الحالة في تقريرها عن ضعف ثقة الجمهور الإسرائيلي في مقولة أن الجيش الإسرائيلي الأقوى في العالم، برغم علمهم بعمليات التحديث المتواصل في تقنية آلياته العسكرية عبر شركات تصنيع السلاح الإسرائيلية، إضافة إلى دعمه بأفضل أنواع السلاح الأمريكي والأوروبي سنويًا.
وكل ما سبق من حقائق يقودنا إلى تفسير أسباب تغلغل الجاسوسية الإسرائيلية إلى عقر دار أقوى حليف إستراتيجي لها في العالم، والتي ولدت بالتزامن مع نشأة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، وكشف الكاتب ليبمان في موقع بولتيكو الأمريكي ما سربه إليه بعض المسئولين الأمريكيين عن الواقعة الأخيرة الخاصة بالتجسس الإسرائيلي على مكالمات البيت الأبيض، بعد تمكن الـ "إف بي آي" من التوصل إلى أجهزة التصنت الإسرائيلية على تليفونات ترامب ومن معه، وكذلك التجسس على مواقع إستراتيجية أخرى في واشنطن، وكانت الحكومة الإسرائيلية تمارس واقعة تجسسها الأخيرة هذه على البيت الأبيض منذ عامين، وبطبيعة الحال تحاول إسرائيل نفي تورطها، ولكن أدلة الاستخبارات الأمريكية لن تعطيها مجالا للشك.
وللأسف الشديد خلافًا عن المعتاد من توقيع الحكومة الأمريكية عقوبات على الفاعل فور كشفها عن إجرائه عمليات تجسس يقوم بها على أراضيها، فلم تتحرك إدارة ترامب حتى بتوبيخ أو بشجب دولة إسرائيل تجاه التعدي على الأمن القومي الأمريكي، ومن جهة أخرى لم يفكر ترامب مليًا أن ما حدث له بمثابة اعتداء على شخصه وعلى موقعه، ولكن لن يحدث ذلك إلا إذا انسلخ ترامب عن تبعيته العمياء لكبار الصهاينة الأمريكان، وأخيرًا تمخض الجبل فولد فأرًا واقتصر دور المسئولين الأمريكيين على إبداء دهشتهم من سلوك إسرائيل المشين.
وهذه الواقعة الأخيرة مجرد حلقة في سلسلة حلقات تجسس إسرائيلية على واشنطن تجري على مدار عقود من الزمان، على سبيل المثال قامت إسرائيل في 2006 بتجنيد موظف بوزارة الدفاع الأمريكية لتمزيق وثائق سرية حول السياسة الأمريكية تجاه إيران، وحوكم بالسجن لمدة 13 عامًا، وفي عام 1985 ألقي القبض على ضابط سابق بجهاز استخبارات البحرية الأمريكية أثناء بيعه وثائق سرية أمريكية لجهاز المخابرات الإسرائيلية.
والواقع يثبت كل يوم أن إسرائيل تتنفس جاسوسية، وتمارس على السواء عملياتها الاستخباراتية على أعدائها وعلى حلفائها، وبشكل متساو من حيث الإمكانات والتكلفة.
Email: [email protected]