كم من مصائب يرتكبها أبناء تفقدنا التوازن، فهذا يطرد أمه من شقتها ليتزوج فيها، ثم تلوذ أمه بالجيران، وآخرون يؤجرون بلطجية لقتل أبيهم، ومراهق يغتصب طالبة ثم يقتلها، وشباب يتسابقون إلى الإدمان، وبعدها يبدأ خبراء الاجتماع والنفس والدين في تأصيل أسباب الجريمة.
ومن العلماء من يرجع أسباب ارتكاب الجرائم إلى التنشئة الخاطئة، ويعلل آخرون أن سببها الفقر، وفريق يشير إلى الخلل النفسي، ويقر رجال الدين أن السبب في تجاوز التربية عن ثوابت الدين،وكثيرًا ما يغفلون أن صلاح الأبناء من صلاح الآباء.
بعد أن شيد الرجل الصالح جدارًا كاد أن ينقض،تعجب سيدنا موسي "عليه السلام" من أنه لم يتخذ عليه أجرًا من أهل القرية؛ الذين رفضوا ضيافتهما، فأخبره أنه كان تحته كنز لغلامين يتيمين، وكان أبوهما صالحًا، ونلاحظ مدى مشقة الرجل الصالح، أو "الخضر" في البناء - وهو جائع - ولم يطلب عليه أجرًا.
ولكن السؤال المهم: ماذا عمل أبوهما من صالح حتى يبعث الله من يحفظ كنز طفليه؟ فقد يكون ممن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو أنه كان يحافظ على الصلاة وقلبه مطمئن، أو أنه كان متصدقًا بالكلمة الطيبة والصدقة الحسنة على الفقراء والأيتام، أو كانت عيناه تفيض دمعًا سرًا من خشية الله، أم أنه كان بارًا بوالديه، أو كان يمتنع عن تناول الرشوة والترزق من الحرام، والمقصد الثاني من الآية في سورة الكهف، أن المال ليس السبيل الوحيد لتحصين الأبناء من الانحراف.
ونستنتج أنه لو أنقض الجدار لاستولى أهل القرية على كنز الغلامين اليتيمين، مع أن المتعارف عن أهل القرى إكرام الضيف والشهامة، عكس ما يشاع عن أهل المدينة،وفي هذا السياق القرآني البديع يذكر لفظ القرية، ونجد في سياق آخر يذكر لفظ المدينة، كما في سورة يسن "وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى".
خلاصة القول من يحافظ على الأصل حتمًا سيصان له الفرع من شرور النفس،ومن المعاني الكبرى في الآية أن الله أرسل رجلين عظيمين لأجلهما، أحدهما رسول من أولي العزم والثاني قيل إنه نبي.
ونتيجة للموروثات الشعبية التي سجلت من واقع الحياة عبر السنين،عبرت عن معنى صلاح الآباء؛ مثل "الابن مرآة أبيه"، و"ومن شابه أباه فما ظلم" و"وهذا الشبل من ذاك الأسد" أم عندما يقول المثل الشعبي "يخرج من ضهر العالم فاسد"، يعني شذوذ بعض الحالات عن القاعدة، كغياب ضياء الشمس في ساعات النهار وقت كسوف الشمس.
قد وصف الله أحد أبناء نوح عليه السلام بأنه عمل غير صالح،من قبيل الاستثناء وليس العموم، والحقيقة الثابتة تؤكد أن الأب المهتم بتحري الحلال في جميع شئون حياته، سيشب ولده على تجنب الحرام، وعند اعتياد الابن على رؤية والده وهو يخالق الناس بخلق حسن ينشأ رجلا حسن العشرة،وإذا لم يسمع الولد من أبيه إلا الصدق، فمن طبيعة الأمور يكبر على بغض الكذب، والولد الذي يرى أبيه يقوم الليل، ويبكي من خشية الله، سيسأل نفسه لماذا ترك أبي الفراش الدافئ، وذهب إلى الوضوء في شدة الليل ليصلي؟ فلابد أن يدرك أنها لذة التقرب إلى الله.
وفي المقابل يذكر المولى المشركين في قوله تعالى: " وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ".
فلا المال ولا المنصب ولا العقار ينفع وحدهم، إن لم يدعمهم قوله تعالي: "وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا".
ومن النماذج الطيبة على ذلك قول أحد الصالحين: "إني لأذنب الذنب فأرى أثر ذلك الذنب على ولدي" وقول سعيد بن المسيب: "إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد من صلاتي"، ويقول ابن القيم: "فما أفسد الأبناء مثل تغافل الآباء وإهمالهم شرور النار بين الثياب، فكم من والد حرم ولده خير الدنيا والآخرة، وعرضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها، وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح"، ولا تظن أن ابنك الصغير لا يستوعب الأمور، فعيناه كالكاميرا تلتقط وتسجل كل أفعالك؛ صغيرها وكبيرها، ويترجمها سلوكه عندما يكبر.
وفي العصر الحديث كان والد الدكتورة "سميرة موسى"- عالمة الذرة وشهيدة الوطن - هو الدافع لها منذ صغرها، وقد ترك قريته بمركز زفتى، وانتقل إلى القاهرة من أجل تعليم ابنته، واشترى فندقًا بفي منطقة "الحسين"؛ ليستثمر أمواله؛ ليصرف على تعليمها، وعندما علم بإعادتها صياغة كتاب "الجبر" المقرر عليها في الصف الأول الثانوي، قام بطبع كتابها على نفقته، ثم وزعته على زملائها بالمجان.
ولرفعة منزلة الأب؛ جعل رسولنا الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم" دعاء الأب من الأدعية المستجابة، ويقول الحديث الشريف: "أربعة دعوتهم مستجابة الإمام العادل، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب، ودعوة المظلوم، ورجل يدعو لولده".
وما أحوجنا حين تنتهي بنا الحياة وتوارى أجسادنا في التراب أن يدعو لنا ولد صالح.