وراء تخلف أغلب دول العالم الثالث تخليها عن التخطيط، وانصرافها عن إعداد الدراسات، ولكن الإسلام كانت له الريادة في تطبيق منهج التخطيط، وتجلت ريادته في الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، في وقت كان تتأصل الجاهلية في ربوع شبه الجزيرة العربية، ولم يعرف الإسلام مطلقا الشعوذة أو الدروشة، وكان حسن التخطيط أحد العوامل الرئيسية في نجاح هجرة رسولنا، ومن خلال تمسك المسلمين الأوائل بزمام عناصر التخطيط الإستيراتيجي، الذي أرساه النبي بمشورة أهل الخبرة من المسلمين وغيرهم، جاءت بداية لبناء دولة الإسلام.
وكم من دولة وحكومة سقطت؛ لأنها لم تعبأ بأهمية التخطيط أو لتحقيرها من شأنه، أما رسولنا فأدرك أن من حسن التوكل علي الله الإعداد الجيد وإقامة الدراسات، غير أن هذا المفهوم ظل مقتصرا علي مدي عصور في الغرب علي فن التخطيط العسكري، وبعد التوسع المعرفي في عصور النهضة الأوروبية أحتضن التخطيط الإستراتيجي شتي مجالات الحياة، وكان السبيل لمشاهدة طفرة حضارية غربية، ويتزامن معها علي الجانب الآخر تراجع الدول الإسلامية عن دور الريادة، وتحولها إلى متلقي ومستهلك.
والسؤال لماذا يحقق الالتزام بمبادئ التخطيط الإستراتيجي النجاح؟ لأنه بوصلتك إلى الطريق الأقصر مسافة والأفضل أمنا والأقل تكلفة، للوصول إلى هدفك، ولا تنحصر رؤيته علي الوقت الراهن، إنما تنظر إلى المستقبل بشقيه القريب والبعيد، ومن مميزاته مساعدة القائد في تحديد أدوار العاملين داخل المؤسسة أو في إدارة الدولة، وهذا ما فعله النبي مع الصحابة، فقال لأبي بكر الصحبة، وكلف علي بن أبي طالب النوم علي فراشه، وجعل عبد الله بن أبي بكر عينا علي تحركات قريش ليبلغه بها، وأسند مهمة تأمين وصول الغذاء إلى أسماء بنت أبي بكر، وكان عامر بن فهيرة مولي أبي بكر يسير بغنمه، لطمس أثار الأقدام المتجهة إلى غار ثور لتضليل متقفي الأثر من قريش، وطبقا لتعليمات الرسول أستأجر أبو بكر المشرك ابن أُريقط ليكون دليلا في دروب الصحراء، وسلك بالنبي وصحبه طريقا غير معتاد للمارة وأكثر وعورة.
وقبل الهجرة تمت بيعتا العقبة الأولي والثانية، وبايع الرسول 12 شخصا من أعيان قبيلتي الأوس والخزرج، وأرسل معهم مصعب بن عمير داعيا ومعلما لهم، سعيا لزيادة عدد الملحقين إلى الإسلام من الأنصار، وقد جاء بعد عام 73 رجلا وامرأة من أهل المدينة، وكان ذلك في السنة الثالثة عشرة من البعثة، وكان هدف النبي من بيعتا العقبة نصرته وحسن استقباله والترحيب بالمهاجرين، وما لبثت أن توالت الانتصارات، وكان التخطيط الجيد أهم أسبابها، ويتزامن معه العناية الإلهية والمصاحبة له في جميع خطواته، التي تجلت في قوله تعالي: "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا".
ولا بد من الجزم أن غياب التخطيط من أبرز أسباب تخلف العالم الثالث، وفي ظل غيابه ينتج عنه تضارب في الأهداف، وازدواجية المشروعات علي حساب اختفاء مشروعات أخري قد تكون أكثر أهمية في عملية التنمية، إضافة إلى إهدار الطاقات والإمكانيات المادية والبشرية، مع تراكم المشاكل عام وراء عام وتضخمها، حتى يصعب حلها.
ويعود الفضل إلى التخطيط الإستراتيجي في تحول دول وليدة إلى نمور اقتصادية، تنافس دولا عملاقة، مثل تايوان وسنغافورة ورواندا، وخاصة الأخيرة اعتمدت علي خطط إستراتيجية طموحة، نقلتها من أرض الموت إلى عاصمة اقتصاد القارة السمراء، غير أن تفوق فرد علي آخر، يتم عبر تخطيط دقيق يصاحبه استخدام آلياته أثناء عملية التنفيذ، وليس أمام هؤلاء المتخلفين سوي اللجوء إلى العلاج النبوي لتداوي تخلفهم، لأن التخطيط ووضع الدراسات العلمية هما السبيل الوحيد والمنهج الحقيقي لوضع أقدامهم في عالم لم يعترف بالضعيف أو الصغير، ولهذا بسطت دولة الإسلام عقيدتها من الصين إلى الأندلس.
Email:[email protected]