بعيدا عن المشهد التقليدي لسرد قصص وحكايات ورحلة كفاح أسر أوائل الثانوية العامة في كل عام، يتصدر المشهد هذا العام قصتان، أقل ما يوصفان بهما أنهما نموذجان لرحلة كفاح شاب وفتاة بمساعدة أسرتيهما وصبرهما لأكثر من 10 سنوات، وليس مجرد رحلة كفاح استغرقت عامًا أو عامين، كما هو حال أغلب أوائل الثانوية العامة.
تتجلى أهمية وروعة قصة كفاح "مروان ودينا"، في أنهما يعانيان التوحد، أو الذاتوية - وفق التوصيف العلمي الصحيح، كما علمته من الدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي - وأن مصطلح التوحد ترجمة خاطئة لحالة مرضية أطلقتها أميرة عربية، وما يؤسف له أنه المصطلح الذي بات أكثر شيوعًا..
أما أن يتحدى طالب أو طالبه كابوس التوحد، فتلك قصة كفاح ونجاح ووسام شرف ينبغي أن تناله أسرة كل منهما، والدعم لهما ينبغي أن يتواصل حتى بلوغ كل منهما أمنيته، فمن يعرف معاناة طفل التوحد وأسرته منذ عمر عامين، وما تكابده كل أسرة مع طفلها في كل لحظة من الحياة، سيدرك معنى التفوق الذي بلغه كل من مروان ودينا..
التوحد باختصار؛ هو حالة تتعلق بنمو الدماغ ما يعوق القدرة على التواصل مع الآخرين والتفاعل معهم، ويبدأ في سن مبكرة، وبرغم أنه لا يوجد سبب واحد معروف للإصابة، فإن دراسة بولندية تقول إن بوادره تنشأ عندما يكون الطفل جنينًا، وقد يعود إلى عوامل أخرى بعد الولادة، ومن المحتمل أن تتعدد أسبابه، وقد يلعب كل من التكوين الوراثي والبيئة دورًا، ولا دخل لطريقة اهتمام الوالدين بالطفل بإصابته بالتوحد، لكن المعاملة السيئة تعقد الأعراض أكثر.
وبعد أن كان تشخيصه بمعدل واحد من كل 10 آلاف طفل خلال ثمانينيات القرن الماضي، أصبح حالة من بين كل 68 طفلًا حاليًا، ما جعل مؤسسة علوم التوحد الأمريكية تعتقد أن التوحد صار وباء!
وما ينبغي تأكيده، أنه لا علاقة نهائيًا بين تطعيمات الأطفال والإصابة بالتوحد، كان مرجع هذه الخرافة الخطيرة دراسة مزيفة زعمها طبيب بريطاني، ما يعني أن إهمال تطعيمات الطفل يُعرضه للإصابة بالعديد من الأمراض الخطيرة، كالسعال الديكي والحصبة الألمانية وحمى النكاف.
ولا توجد وسيلة لمنع المرض، لكن هناك خيارات للعلاج، وبرغم عدم وجود علاج نهائي للمرض حتى الآن، إلا أن العلاجات السلوكية واللغوية مبكرًا تحصد نتائج مذهلة على المدى الطويل، وهذا ما رأيناه مع "مروان ودينا".
لذا يحق لنا أن نحتفي ونثمن مجهود "مروان وحيد" ابن محافظة الشرقية، الذي حقق معدلًا قدره 98.9% شعبة علمي رياضة، والطالبة "دينا عادل السيد" من الشرقية أيضًا، والتي حصلت على معدل 97.17% شعبة علمي علوم، وكلاهما مصاب بالتوحد.
وعلينا أن نُثمن جهود أسرتيهما، فأسرة مروان لم تستسلم لمحاولات الإفشال والتثبيط التي واجهتها ممن قال لهما "آخره ياخد دبلوم"، وواصلت رحلة علاجه منذ عمر عامين وأصرت على دمجه في المجتمع كي يعيش حياة طبيعية، وهذا ما أوصله للانتساب إلى مدرسة تعتمد نظام الدمج في التعليم وبالتعاون مع المعلمين والاختصاصيين، فجنوا جميعا ثمرة فوزه بالمركز الأول..
أما "دينا" فاعتبرت حصولها على المركز الأول بداية تفوقها الذي سيستمر لتصبح أستاذة جامعية وهو ما تحلم به، وهي تسعى للحصول على منحة لإحدى الجامعتين البريطانية أو الأمريكية، فهي بالتأكيد خاضت التجربة الأصعب، والآن باتت قادرة على الصمود في وجه أي عقبة قد تعترض طريقها.
فكلتا الأسرتين ضربت مثلا وقدوة يحتذى بها، ورسمت الأمل لكل مرضى التوحد وأسرهم في مصر وأعدادهم تقدر بالآلاف، وجميعهم - بكل أسف - يواجهون جبالًا من المعاناة.
شكرًا "مروان"، نتمنى أن تحقق حلمك وتدرس الهندسة، شكرًا "دينا"، ونتمنى أن تنالي المنحة التي تتمنينها وتصبحي أستاذة جامعية، فقد أكدتما للناس أجمعين أنه لا حدود لقدراتكما..
بالمناسبة هناك مشاهير وعباقرة في العلم والفن والأدب في الماضي والحاضر، كانوا أو ما زالوا يعانون هذا المرض بصورة أو بأخرى، منهم "بيل جيتس" مؤسس شركة "مايكروسوفت" وإمبراطور الكمبيوتر، و"آل جور" نائب الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون"، و"فان جوخ" الرسام الهولندي الأشهر في العالم، و"أينشتاين"، العالم الذي طور نظرية النسبية، و"نيوتن" الذي صاغ قوانين الحركة وقانون الجذب العام التي سيطرت على رؤية العلماء.
وعربيًا هناك الباحثة اليمنية "مناهل ثابت" التي حصلت على الدكتوراه في عمر 28 عامًا في رياضيات الكم، وعلميًا تبنت مؤسسات عالمية عدة النظريات التي اخترعتها في مجال الفضاء لقياس المجرات الكونية، وسرعة انتقال الضوء بينها.
فهل يأتي يوم ونرى فيه "مروان ودينا" من بين العباقرة الذين يسجلون إنجازاتهم، أم سيطويهما النسيان ويتخلى عنهما الجميع، ولايساعدونهما في نيل المنح الدراسية التي يحلمان بها، ويصبح الاحتفاء بهما اليوم، مجرد "نزوة إعلامية" سرعان ما تنزوي؟!