Close ad

خفايا المعركة مع هواوي

25-5-2019 | 23:53

معركة تكسير العظام الطاحنة التي تقودها بجموح الولايات المتحدة، ومعها بعض البلدان الأوروبية ضد شركة "هواوي" الصينية، تتجاوز بمراحل المعلن من جهة إدارة الرئيس دونالد ترامب، حول غياب العدالة التنافسية في التعاملات التجارية، بسبب تمتع هواوي بميزة سعرية، بفضل ما تحصل عليه من دعم حكومي يتيح لها خفض أسعار منتجاتها في مواجهة منافسيها الأمريكيين والأوروبيين، ومن ثم السيطرة على رقعة أكبر في سوق الاتصالات؛ حيث بلغت أرباح هواوي العام الماضي ٩٢ مليار دولار.

أما المسكوت عنه في هذه المعركة الشرسة؛ فهو أنها في حقيقتها وجوهرها استنساخ لمناخ الحرب الباردة التي دارت رحاها بين أمريكا والاتحاد السوفيتي السابق حتى مطلع التسعينيات من القرن العشرين، واستبدلت أمريكا الاتحاد السوفيتي بالصين؛ التي بات صعودها السريع والواثق يمثل هاجسًا مرعبًا لواشنطن، وتسعى لإيقافه وعرقلته بأي طريقة، وهواوي ليست سوى الرمز الأبرز للتفوق والصعود الصيني عالميًا، وتنافس بقوة كبريات شركات الاتصالات الأمريكية وأولها "آبل".

نحن أمام تنافس لا رحمة فيه على الريادة في "الثورة التكنولوجية" التي سوف ترسم ملامح ومعالم المتبقي من الألفية الثالثة، مثلما غيرت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر وجه العالم، وكانت سببًا في ظهور قوى وأفول أخرى، وبدون أدنى شك فإن واشنطن تتخوف من تراجع مكانتها وهيمنتها الدولية، إذا سبقتها الصين بخطوات في هذا المجال الحساس، واستطاعت تحقيق قفزات فارقة فيه؛ بفضل ابتكارات وإبداعات شركاتها، وفي طليعتها "هواوي".

ولا يخفى على أحد أن تكنولوجيا الجيل الخامس سيكون لها القول الفصل في تشكيل وتطوير الاقتصاد العالمي خلال السنوات المقبلة، ومعروف أن "هواوي" لها باع كبيرة وريادية في هذه التكنولوجيا، وأبرمت تعاقدات تفوق إجمالي تعاقدات جميع منافسيها، وتفوقت على شركات "سيليكون فالي" بأمريكا في تقنيات الجيل الخامس، وهو ما سيسمح لها بلعب دور محوري في إحداث تحول في الاقتصاد العالمي، وتمكين الصين من بلوغ القمة؛ لتصبح الاقتصاد رقم واحد في العالم وإزاحة أمريكا من المركز الأول؛ لتكون في المرتبة الثانية، وذاك سيناريو دونه الموت في نظر الولايات المتحدة ودوائر صنع القرار فيها.

وللتذكير فإن الولايات المتحدة شيدت جزءًا كبيرًا من تفوقها الاقتصادي؛ معتمدة على كونها رائدة في قطاع "أشباه الموصلات" التي احتكرتها تقريبًا شركاتها، وحينما كانت الحرب التجارية مستعرة بين الولايات المتحدة واليابان في عقد التسعينيات من القرن العشرين، كانت هناك دعوات متواصلة داخل اليابان للتوسع في مجال أشباه الموصلات، ووقف التعامل فيه مع واشنطن؛ كورقة ضغط رابحة في المفاوضات الجارية بين البلدين لتسوية خلافاتهما التجارية المتفاقمة.

كما أن من بين خطط الصين المستقبلية الطموحة أن تصبح رائدة في صناعة الشرائح بكافة أنواعها بحلول ٢٠٣٠، وهو ما يشكل ضغطًا أكبر على الجانب الأمريكي الذي لن يستسلم بسهولة في معركة يعتبرها مصيرية ولا يقبل الهزيمة فيها، وسوف يستغل كل ما لديه من أوراق وقدرة على المناورة للخروج منها منتصرًا.

بدوره فإن البعد الاقتصادي مرتبط بموازين القوى؛ حيث إن تفوق الصين الاقتصادي مستغلة الورقة الرابحة في يدها ـ تكنولوجيا الجيل الخامس ـ سيجعل بكين تسعى لإقامة نظام عالمي جديد بمعايير ومقاييس تختلف كلية عن تلك التي يقوم عليها النظام الدولي الراهن الذي وضعت أسسه وقواعده الولايات المتحدة، وبالتالي لن تقدر واشنطن على فرض إرادتها وإملاءاتها على المجتمع الدولي، مثلما اعتادت، منذ بروزها كقوة عظمى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وستضطر لتوفيق أوضاعها وفقًا للحسابات الجديدة في ميزان القوى العالمي.

ولا يغيب عن الأمريكيين - وعن شعوب الأرض قاطبة - أن تطوير شبكة الإنترنت، الأمريكية المنشأ، كان متزامنًا ومرافقًا لتبوؤ الولايات المتحدة مقعد القوة العظمى الأولى، وكانت الإنترنت ـ ولا تزال ـ مرادفا للهيمنة الأمريكية على عالمنا المعاصر.

أما الهاجس الأخطر والمؤلم في الرؤية الأمريكية فيتصل بالشق العسكري، فالمناقشات الدائرة بمراكز صناعة القرار الأمريكية أن تكنولوجيا الجيل الخامس ستزود بكين بقدرات فائقة تمكنها من تنفيذ هجمات موجعة ضد البنية التحتية الحساسة المرتبطة بأنظمة التسليح وتشغيلها، وتعريض آلية تبادل المعلومات الاستخباراتية مع البلدان الحليفة للخطر، في حالة نجاح "هواوي" في تثبيت أقدامها في شبكات الجيل الخامس التي ستمكنها من الحصول على كم مهول من البيانات التي ستوظفها لزيادة القدرات التنافسية لشركاتها، وكذلك قدراتها العسكرية المتعاظمة.

أيضًا هناك مخاوف من أن يصبح بمقدور شبكات الجيل الخامس تغيير أسلوب عمل المؤسسات العسكرية في المستقبل، منها مثلا أن يفاجأ حلفاء أمريكا في جنوب شرق آسيا بتراجع قدراتهم على دمج أسلحة ومنصات أسلحة أمريكية الصنع في ترساناتهم، مما قد يعرض هذه الدول للخطر الداهم، طبقًا لتقدير نيل كوبليام من شركة "كاسلريه" الأمريكية، بمعنى واضح فإن التفوق العسكري الأمريكي بدوره سيصبح في مهب الريح.

وعلى الولايات المتحدة الانتباه إلى أن الصين ليست طرفًا ضعيفًا وأدواته محدودة في معركة تكبيل "هواوي" الناشبة حاليًا، فهي تدرس جيدًا كل حركة تخطوها بدقة في مسيرتها التنموية والتكنولوجية، وأضحى لها تأثير في اتجاهات الاقتصاد العالمي، وتخط لنفسها مسارات بديلة في عالم المعلومات وما يتعلق به، وتعلم أن المصالح سيكون لها الكلمة الفصل، ودعونا نتابع معًا فصول وتسويات ومساومات صراع الكبار على الريادة والزعامة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: