انتهى المقال السابق إلى وجود فجوة كبيرة بين أسعارالخدمات والطاقة - حيث تسير الحكومة في رفع أسعارها للسعر العالمي - وبين الأجور والمعاشات وأسعار المحاصيل المحلية؛ مما ترتب عليه ضغوط ومشكلات اجتماعية خطيرة للطبقات الوسطى والدنيا.
ومن هنا أهمية قرارات الريئس الأخيرة برفع المرتبات والمعاشات، والمطالبة بإعادة النظر في هيكل الأجور بالدولة؛ لأن هناك تفاوتًا كبيرًا وغير مبرر في كثير من القطاعات؛ مما يعكس غياب العدالة في عدة قطاعات؛ مما ينعكس سلبيًا على المجتع بأسره، هناك قطاعات تعاني انخفاض الأجور بشكل كبير، بالرغم من أنها أهم قطاعات التنمية في أى مجتمع، وفي أى زمان؛ وهي - على سبيل المثال وليس الحصر - أجور الأطباء والمعلمين وأساتذة الجامعة؛ حيث يبلغ أجر الطبيب الحديث نحو ألفي جنيه قبل الزيادة الأخيرة، وهو مبلغ الحد الأدنى للأجور الآن.
والمعلم الحديث أيضًا لا يزيد على ذلك، ويبلغ دخل مدرس الجامعة الذى حصل على الدكتوراه نحو ستة آلاف جنيه شهريًا، في حين يحصل أي خريج جامعي حديث على أكثر من هذا المبلغ لو تم تعيينه في بنك حكومي، أو شركة بترول.. وغير ذلك من جهات حكومية أخرى؛ ما أدى لعزوف المتفوقين - وهم خيرة شباب الأمة - عن التعيين في كادر الجامعة أو دخول كلية الطب، وهذ خسارة مجتمعية كبيرة لا يمكن تعويضها، وتعوق مستقبل أي مجتمع؛ لأنه لن تكون هناك تنمية بغير الطبيب والمعلم وأستاذ الجامعة؛ فهم أساس أي نهضة اقتصادية أو صحية أو علمية، ونحن لا نخترع العجلة؛ حيث يحصل أستاذ الجامعة على أعلى راتب في أي دولة، ويليه الطبيب ثم المدرس، ومصر الستينيات طالب القضاة برفع مرتباتهم والمساواة بأعضاء هيئة التدريس، واليوم الفجوة كبيرة؛ وتصل لعدة أضعاف بلا أي مبرر.
ونتيجة هذه المشكلات انتشرت الدروس الخاصة والسيناتر - حتى في الجامعات - وتدهورت أوضاع الصحة والعلاج؛ وللأسف فإن ما يحدث الآن هو مقدمات لتدهور سريع قادم وخطير، إن لم نتدارك سريعًا هذه المشكلات.
ولذلك يمكن للحكومة أن تشكل لجنة لوضع قانون جديد موحد لجميع قطاعات الدولة بلا كوادر خاصة، ويمكن الرجوع للنماذج الدولية المختلفة في هذا المجال، وبالطبع يؤخذ في الحسبان عند وضع هذا القانون كافة الأبعاد والشروط والأخطار والأعباء المرتبطة بكل مهنة؛ مثل مخاطر كل مهنة فتكون هناك نسبة معينة تصرف كبدل للمخاطر - حسب درجة الخطورة - وبدل آخر لدرجة المؤهل والدرجات العلمية، وآخر لمكان وطبيعة العمل خارج المدن أو مكان الإقامة، وكادر خاص لشهداء العمل وخلافه، فلا يظلم أحد، والتجارب العالمية في هذا الشأن يمكن الرجوع إليها بسهولة في هذا العصر، ومن خلال الإنترنت بدون مشقة السفر.
وبالطبع جذور هذه المشكلات ترجع لبدايات عصر الانفتاح وتفاقمت تدريجيًا خلال هذه العقود، وللأسف كانت سياسات الإصلاح الاقتصادي غافلة عن إصلاح هذه المشكلات، والتى تزايدت بعد تعويم الجنيه، والإصلاح ينبغي أن يكون سريعًا ومن خلال خطة على مدى خمس سنوات قادمة للإصلاح الهيكلي، ويمكن توفير الموارد اللازمة من خلال عدة خطوات متكاملة تشمل الآتي:
أولًا: ترشيد الإنفاق الحكومي؛ سواء من خلال توفير50% من كل بند المكافآت، والتى تشكل نسبة كبيرة من بند الرواتب، خاصة للجهات المرتفعة الدخل مع ترشيد نفقات السفر، وإلغاء بند السيارات الخاصة لكبار الموظفين، وتعويض ذلك ببدل نقدي شهري لا يتعدى نحو ألف جنيه.
ثانيًا: عودة الضرائب التصاعدية بمعدل نحو 4% سنويًا، ونذكر أصحاب النظرية الرأسمالية بأن الرئيس الأمريكي روزفلت رفع هذه الضرائب إلى 90% عند الحاجة لذلك، وهي تصل الآن لنحو 60% في كثير من الدول الرأسمالية؛ مثل فرنسا وكندا، والآن مصر نحو 22% فقط.
ثالثًا: عودة ضريبة البورصة التى مضى على توقفها سنوات.
رابعًا: هناك موارد أخرى عديدة يجب أن توضع على الاستهلاك الترفي في الكهرباء والمياه وخلافه سبق تناولها؛ مثل حصر كافة أشكال الدعم على المصريين فقط، ومثال بذلك كارت البنزين الذي يجب تفعيله، وفى كافة الخدمات.
وهناك نحو عشرة ملايين أجنبى يقيمون في مصر ويستفيدون بهذا الدعم، هذا مع وسائل أخرى عديدة يمكن دراسة سبل ترشيد النفقات؛ مثل البعثات الدبلوماسية والسفارات بالخارج، ورفع الدعم تدريجيًا عن الإعلام التقليدي، والتركيز على الإعلام الحديث الإلكتروني، ورفع الدعم عن الأندية الكبيرة التي تشتري اللاعب بعشرات الملايين، وقصره على كل مراكز الشباب والأندية الصغيرة.
كما أن هناك وسائل متعددة لزيادة دخل الدولة، مثل توسع المدارس الحكومية في دروس التقوية، وتقنين الدروس الخاصة من خلال المدارس، والاستفادة من الإعلانات في محطات السكة الحديد، ومراكز الشباب، وتأجير بعض المحلات في هذه الأماكن، وغير ذلك كثير عند البدء في هذا المجال، وكل هذا - مع اكتشافات الغاز والبترول – سيساعدنا على حل هذه المشكلات في سنوات قادمة من خلال إدارة وإرادة رشيدة.. والله المعين.