من المؤكد أن هناك علاقة قوية بين الجغرافيا والتاريخ فالحقبة التاريخية المسماة باليونانية الرومانية مرتبطة بالانتماء الجغرافي من خلال إطلالها على البحر المتوسط، حيث يسهل تبادل التجارة والمنافع بين هذه الدول؛ ولذلك يمكن القول لحد كبير إن تاريخ مصر هو تاريخ البحر الأبيض المتوسط على وجه التقريب، فإذا استقرت أمور مصر وحسنت أحوالها اتصف هذا البحر بالنشاط وانتعشت موانيه والعكس صحيح.
ولذلك يمكن ربط تاريخ هذا البحر بتاريخ الإسكندرية، أما قبل إنشائها فلم يكن لهذا البحر تاريخ، وإنما كان هناك نشاط محدود في هذا الجانب أو ذاك ولقد تحول انتماء مصر إلى مجموعة البحر المتوسط إلى نقطة تحول جديدة مع الحملة الفرنسية، حيث اهتمت الحملة بالآثار المصرية، وتم اكتشاف حجر رشيد، وبعد ذلك أرسل محمد علي بعثات علمية إلى أوروبا مع انتشار أفكار حقوق الإنسان والديموقراطية.
وأدى ذلك للإقلال من حجم السخرة ورفع الجزية عن المسيحيين في عصر سعيد، وهذا المناخ أدى لظهور فكر القومية وشعار مصر للمصريين، وهناك مجموعة من المفكرين المتأثرين بانتماء مصر للبحر المتوسط؛ منهم طه حسين وأحمد لطفي السيد وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهم، وكل هذه الآراء على حق، ولكن المشكلة في رفض بعض الأعمدة الأخرى وفي الأولويات؛ لأن مصر تأثرت فعلا بكل هذه الأعمدة معا، ولا يمكن استبعاد أي من هذه الأعمدة.
وتبقي مشكلة الأولويات، حيث يرى الدكتور ميلاد حنا أن الانتماء العربي يسبق الجميع ولا يتعارض مع أي عمود آخر، فمثلا الانتماء البحرأوسطي متمم للعربي؛ حيث هناك دول عربية كثيرة تشارك مصر في الانتماء البحرأوسطي؛ مثل لبنان وسوريا وفلسطين والمغرب العربي، وبعد ذلك ينتقل الدكتور ميلاد للعمود الأخير وهو البعد الإفريقي، ويري الدكتور ميلاد أنه بعد مهم جدًا للمستقبل، ويحذر من تقسيم السودان إلى جنوب وشمال لخطورة ذلك على مصر.
ويرى أن ناصر قام بدور كبير ومهم في تدعيم الانتماء الإفريقي لمصر، حيث قدم مساعدات هائلة سياسية وعسكرية ومادية لحركات التحرر الوطني في جميع أنحاء القارة، بل والعالم الثالث بوجه عام.
وللحق تقدر إفريقيا ذلك لمصر ولناصر وإفريقيا التي تمثل بعدًا مستقبليا مهمًا لمصر وللعالم؛ لأن إفريقيا هي مخزون العالم في التوسع الزراعي، وفي اكتشاف كنوز الثروات المعدنية وغيرها، ويضيف الدكتور ميلاد أن هذه الانتماءات السبعة تعطي ميزة خاصة للشخصية المصرية بشكل عام، ولكنها أعمدة ليست متساوية في الأهمية أو الأفضلية؛ بل إنها تختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر؛ فمثلا قد يكون البعد الإسلامي أو المسيحي أكثر أهمية في مرحلة الشباب مثلا، وأيضا للدولة، حيث اهتم ناصر بالبعد العربي وجاء السادات ليبرز البعد الإسلامي - بغض النظر عن الأسباب - ويبقي في النهاية أن جميع هذه الأبعاد مؤثرة في الشخصية المصرية، وهي مثل آلات الفرقة الموسيقية تعزف في النهاية سيمفونية واحدة، ويرى الدكتور ميلاد أن هذا ينطبق أيضًا على الأفراد، حيث ينتمي الفرد لأسرته الوالد والوالدة والإخوة ثم العائلة ثم يكون أسرته الصغيرة بالزواج وينتمي لطبقة اجتماعية معينة ولجماعة من الأصدقاء لها ميول مشتركة في الدين أو الرياضة وإلى قبيلة أو قرية أو مدينة وإلى مهنة معينة، وأخيرا الانتماء للوطن الأكبر.
ويضيف الدكتور ميلاد أن الشخص المتعصب هو الذي يركزعلى انتماء واحد ويعطيه معظم اهتماماته دون أن يتفاعل مع الانتماءات الأخري.. هذا هو ملخص كتاب الدكتور ميلاد حنا الممتع والمتميزعن الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، ويتميز بالمزج الحضاري بين الثقافات المختلفة التي كونت الشخصية المصرية عبر التاريخ.
وبالنسبة للبعد الإفريقي فهو ماضٍ وحاضر ومستقبل، وبه ومنه نهر النيل شريان الحياة لمصر، وبه أيضا جزء كبير من حدود مصر مع السودان ومع ليبيا، ودول الحدود تمثل جزءًا أساسيًا من الأمن القومي لأي وطن وهما العمق الإستراتيجي للوطن، ولاننسي قبل القذافي كانت في ليبيا قاعدة أمريكية استخدمها العدو في تهديد مصر، والآن يستخدمها الإرهاب أيضًا لتهديد مصر والسودان ووحدته أمن قومي.
ومن المؤكد أنه ليس هناك تعارض بين هذه الأبعاد، فمثلا البعد العربي والإسلامي يدعم كل منهما الآخر، فيصعب مثلا تصور عالم إسلامي بدون العرب أو العكس؛ فكلاهما يدعم الآخر وليس بديلا عنه، ويبقي الأمن والمصالح السياسية والأمنية لتحدد الأولويات والسياسات المناسبة لجغرافية وتاريخ الوطن.. والله الموفق.