تناولنا في السابق أربعة أعمدة تاريخية أثرت على الشخصية المصرية بداية من العصر الفرعوني ثم اليوناني الروماني وبعدهما المسيحية ثم الإسلام.
ويضيف د.ميلاد ثلاثة أعمدة أخرى بحكم الجغرافيا أو المكان وهى البعد العربى، ثم الإفريقى، وأخيرا البعد المتوسطى، وبالنسبة للبعد العربي فهو قديم، لأن علاقة مصر بالعرب ترجع إلى أوائل عصر الأسر الفرعونية، حيث شكلت سيناء مدخلا رئيسيا من مداخل هجرة القبائل العربية إلى سيناء، وتوجد نقوش وكتابات فرعونية من عصر الأسر في حدود عام 2000 ق م تثبت استيطان بعض العرب في سيناء والصحراء الغربية والشاطئ إلا على النيل.
وبعد الإسلام شهدت مصر مرحلة جديدة من هجرة بعض القبائل العربية، وخاصة من الجزيرة العربية بجانب هجرات أخرى من بلاد أخرى، ولكن بالطبع كان للتحول إلى الدين الإسلامى دور مهم في تحول اللغة إلى العربية، ويرى خبير الآثار أحمد كمال أن اللغة المصرية القديمة واللغة العربية هما من أصل واحد، ويضيف المؤرخ سليم حسن أن نحو 65% على الأقل من اللغة المصرية القديمة تتشابه مع العربية وهذا يرجع إلى الجذور المشتركة وكثير من المفردات المستخدمة حاليا في مصر، خاصة في اللغة الدارجة معروفة ومقبولة في معظم الدول العربية واستمرت العلاقات الحميمة بين مصر والعرب إلى القرن الخامس عشر ثم انحصرت هذه العلاقات في عهد المماليك وعهد الخلافة العثمانية؛ لأنهم لاينتمون أصلا للعرب كجنس أو كلغة أو كحضارة، ولذلك سعت الدولة العثمانية وعملت على إضعاف العلاقات المصرية العربية الإسلامية وحاولوا وأد التوجه العربى لمصر، ودفعوا كبديل التوجه الإسلامى لكى يكون لهم دور القيادة وحاربوا فكرة العروبة وتيار القومية العربية.
واستمرت فترة الظلام المملوكى العثمانى خمسة قرون إلى أن جاء ناصر وحرر مصر من هذا الظلام؛ لأن روابط مصر العربية قوية الجذور، فمثلا علاقات مصر مع الشام والحجاز قوية معظم التاريخ، حيث كانت مصر والشام بلدا واحدا طوال العصور الوسطى باستثناء بعض فترات القلاقل، فمثلا الدولتان الطولونية والإخشيدية كانتا مصريتين شامتين في آن واحد، وكذلك معظم عهد الدولة الفاطمية، أما علاقات مصر والحجاز فمثال لها عصر العباسيين، حيث ضمت الحجاز لمصر في عصرالإخشيد، وبذلك أصبحت الدولة المصرية تشمل مصر والشام والحجاز.
وكانت مصر مسئولة عن الحرمين الشريفين وأهلهما، ومن هنا كانت فكرة كسوة الكعبة من مصر، كما أن البيت العتيق بناه سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل ابن ستنا هاجر المصرية، كما قامت مصر بإدارة البيت الحرام، وإعادة تجديده على أيام الظاهر بيبرس، كما أعيد تجديده أيام محمد علي، ثم جاء جمال عبدناصر وقاد عمليات تحرير الدول العربية، ودول العالم الثالث بوجه عام، واتجهت المنطقة كلها إلى القومية العربية؛ لأن مصر هى "الطبة"، أو مركز الثقل الذى يرجح الميزان في المنطقة، فإذا انحازت مصر إلى العرب اتجهت المنطقة كلها لفكرة القومية العربية والعكس صحيح.
وفي عهد السادات غيرت مصر المسار، وشجع السادات الجماعات الإسلامية المتشددة وأطلق سراحهم من السجون، وأمدهم بالمال والتأييد في الجامعات وغيرها من الأماكن لضرب فكر ناصر.
وبذلك انتقلت مصر من فكرة العروبة والقومية العربية إلى الفكر الإسلامى المتشدد، ومعه مالت المنطقة كلها إلى التوجه الإسلامى المتشدد والمتعصب، وظهرت مشكلات الفتنة الطائفية، ثم كامب ديفيد وعزلة مصر؛ ومانتج عن ذلك من تفكك عربي خسر فيه الجميع؛ لأن علاقة مصر بالعرب هو انتماء، ومصالح حضارية واقتصادية وسياسية، فمصر مثل عمود الخيمة الصلب القوى للأمة العربية، والعرب نسيج أو قماش الخيمة إذا سقط العمود أو انكسر سقط الجميع وأصبح العمود قطعة حديد بلا قيمة والنسيج أيضا بلا قيمة، وهكذا أصبحت مصر في عصر السادات، خاصة بعد كامب ديفيد.
ولذلك فإن انتماء مصر العربى ليس مسألة عاطفية أو مجرد تاريخ؛ فهى مصلحة مصر المحورية والدائمة والمستقبلية.
هذا ملخص رؤية د.ميلاد حنا للبعد العربي وهى تتفق تماما مع رؤية مفكر مصر الإستراتيجى جمال حمدان، فمصر والعرب تاريخ منذ أيام سيدنا إبراهيم وزوجته هاجر أم إسماعيل وأم العرب، وهو البلد الذى لجأ إليه سيدنا يعقوب وأبناؤه يوسف وإخوته، وهو البلد الذى لجأت إليه ستنا مريم والمسيح عليه السلام، وهو البلد الذى لجأ إليه آل البيت السيدة زينب والسيدة نفيسة، وهو البلد الذي أنجب مارية زوجة الرسول "صلى الله عليه وسلم" وأم إبراهيم، وهو البلد الذي لجأ إليه سيدنا إدريس، وهو البلد الوحيد الذي ظهر فيه الله سبحانه وتعالى وكلم فيه سيدنا موسى، وهو البلد الذي ذكر صراحة في الكتب الثلاثة المقدسة القرآن الكريم والإنجيل والتوراة، وقال عنها المولى الكريم في القرآن الكريم إنك بالوادي المقدس طوى، وأن بها خزائن الأرض لسيدنا يوسف، وقال سبحانه ادخلوها بسلام آمنين واقترن اسمها في الإنجيل بالأرض المباركة.
هذه هى مصر المحروسة، ويلاحظ أيضا أن التاريخ يذكر سعي تركيا الدائم لعزل مصر عن عالمها العربى من خلال نشر فكرة الدولة الإسلامية كبديل للعروبة، وذلك لخدمة مصالحها وتوسيع دورها لقيادة العالم الإسلامى، وهذا تكرر في عصر ناصر ويتكرر الآن، وهذا أيضا يتفق مع رؤية جمال حمدان من أن هناك ثلاث قوى كبرى في الشرق تسعى كل منها لقيادة المنطقة، وتوسع دور أى دولة منها يكون على حساب القوتين الأخريين، ولذلك كانت مصر الستينيات هى المؤثرة الأولى في المنطقة.
وبعد تراجع دور مصر في وطنها العربى وكامب ديفيد تراجعت مصر وتعاظم دور تركيا وإيران؛ وهى مشكلة العرب ومصر الآن؛ والحل عودة مصر لقيادة وطنها بشرط تقوية الموضع وأوضاعها الداخلية؛ حتى يكون لها دور خارجى مؤثر، وحتى يرتفع الموضع لقوة ومكانة الموقع، كما قال مفكرنا الكبير جمال حمدان رحمة الله عليه..