من أين أتت زميلتنا بهذه القدرة الرهيبة على التقاط ذبذبات الروح البعيدة، وإعادة صياغتها في نصوص مدهشة تختطف من عيونك الدهشة و الدموع معًا؟ بنت الأصول الراقية التي اعتادت أن تتعامل مع الغريب قبل القريب بروح بنت البلد الجدعة، صاحبة صاحبها، في كل مكان عملت به - سواء مجلة أسبوعية اجتماعية أم فضائيات - ظلت عنوانًا دائمًا للبهجة، ويفوح منها عطر المرح على الدوام، تسبقها ضحكتها بينما يتسابق كل صاحب مشكلة عاطفية أو ضائقة مادية أو أزمة عائلية على حجز رقمه في عيادة الكشف المجاني المسمى قلبها، فهي قادرة على احتواء صاحب المشكلة وجدانيًا والخروج معه بحلول عملية فورية.
لكنها أيضًا كانت تخدعنا نحن جيش الأصدقاء والزملاء، البعيدين والمقربين على حد سواء! نعم تخدعنا؛ لأنها أوهمتنا أنها المرأة الحديدية المكتفية بنفسها فلا تحتاج إلى ربتة حانية على الكتف، أو مسح دمعة تسللت سهوًا وشقت مجراها عبر وجهها الحنون.. هكذا أعطتنا انطباعًا كاذبًا ونحن بأنانيتنا وغرقنا في تفاصيلنا الشخصية التي لا تنتهي صدقناها سريعًا دون تأمل أو تمحيص، فقد اعتدنا أن نأخذ ولا نعطي، ونسينا أو تناسينا أنه لا يوجد شخص في الوجود يعاني من لحظات ضعف عاتية الواحدة منها بألف عاصفة مما تعدون.
كانت غادة الصباع زميلتنا المبهجة، الضاحكة على الدوام، تعاني من أخطر أنواع النزيف الداخلي: نزيف الروح؛ حين تفقد بوصلة الحياة ويتلاشى الأمل، وتصبح الدنيا أضيق من ثقب إبرة ويخذلك الجميع، وتود أن تطلق صرختك لتدوي في البرية، لكنك حين تهتف بأقوى ما فيك لا يخرج شيء، استعادت زميلتنا بوصلتها وصوتها، اخترقت حجب العتمة الكثيفة؛ لتصل أخيرًا إلى النور فتعانقه وتستحم في بئره البعيدة وسط صحراء من الأشواك، تشبعت روحها بحالة نادرة من الصفاء والتصالح والسلام؛ فأصبحت ترى الوجود بعين أخرى وتضع صراعاتنا مع الدنيا وحروبنا التي لا تنتهي في حجمها الطبيعي.
كتابها الأول "هدايا السماء" ليس في التنمية البشرية برغم أنه فيه منها الكثير، وليس كتابًا في المذكرات الشخصية مع أنه لا يخلو منها، وليس عملًا يندرج في إطار الرواية والقصة القصيرة، وإن كان فيه من جمال السرد وعذوبة الحكي ما نفتقده في إنتاجنا الأدبي.
هذا كتاب عن الإشراقات النورانية لروح تتراقص طربًا ووجدان يتمايل لذةً، نفس اللذة الذي يعرفها كل من اقترب بعد أن كان بعيدًا، وفهم بعد أن كان جاهلًا، وتذوق بعد أن كان محرومًا، المؤلفة التي ستحظى باللقب لأول مرة مجرد شخص عادي تمامًا، مثلي ومثلك، لا يدعي لنفسه امتيازًا خاصًا، لكن الله أنعم عليه بقدر من الفيوضات والفتوحات والأنوار بعد أن حملت كتفاه عبئًا طال كثيرًا فأراد أن يقدم للآخرين ما تيسر من تلك التجربة الروحانية الاجتماعية العاطفية ولا يستأثر بها لنفسه.