كان الانتماء الفرعوني لمصر أقدم الرقائق الحضارية، وشهدت مصر فيه حضارة متقدمة ورائدة للعالم أجمع، بالرغم من وجود فترات انتكاسة - وهذا وضع طبيعي في كل الحضارات - فكان العصر المتأخر للحضارة الفرعونية في الفترة من 1200 ق.م إلى 1085 ق.م فترة ضعف وترهل أدى لتفكك الإمبراطورية، وكانت مرحلة التبعية للخارج مع وجود محاولات بين الحين والآخر للحصول على الاستقلال، وكان آخر فرعون لمصر في الأسرة الثلاثين، وبعده بدأ صراع القوى العالمية للسيطرة على مصر، وكان الصراع بين الفرس واليونان شديدًا.
ونجح جيش اليونان عام 332 ق.م في دخول مصر وإقصاء الفرس؛ واستقبل المصريون جيش اليونان بالترحيب للخلاص من الفرس، وكان بطليموس هو مؤسس حكم البطالمة، ودام نحو ثلاث مائة عام.
وتمكن بطلميوس الأول من ضم بعض الأقاليم التي كانت ملحقة بالدولة المصرية كبرقة وجنوب سوريا وفينقيا وفلسطين، وقبرص، ثم انهارت دولة البطالمة في موقعة أكتيوم عام 31 ق.م، وأصبحت مصر تابعة للإمبراطورية الرومانية، وهكذا كان دخول اليونان ثم الرومان إلى مصر سبيلا للامتزاج الحضاري، فأخذ اليونانيون والرومان عن المصريين علوم الفلك والعمارة والإنشاءات، وغيرها من العلوم، كما أخذت مصر بفكر الفلسفة اليونانية وقممها الثلاث سقراط وأفلاطون وأرسطو.
ومن هنا فإن حضارة مصر الفرعونية قد انتقلت من خلال اليونان والرومان إلى أوروبا والغرب، ثم تأثرت بحضارة العرب، وهكذا نجد أن ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية الآن، من تقدم ما هو إلا نتيجة تراكم للمعرفة الإنسانية في مراحلها المختلفة، وكان لمصر دورها الكبير في هذا المجال، ولذلك فإن الحضارة الغربية اليوم هي نتيجة لتراكم حضارة مصر والعرب وغيره من حضارات البشرية.
كما أن انتماء مصر إلى دول حوض البحر الأبيض المتوسط لا يقتصر فقط على الحقبة اليونانية الرومانية، حيث التفاعلات مستمرة بحكم الموقع، ولذلك يعترف اليونانيون في عصورهم الراقية بأنهم تلاميذ المصريين في الحضارة، وهناك تشابه في المناخ وأنماط الحياة بين مدن الإسكندرية وبورسعيد في مصر وما يقابلها في مدن على الجانب الشمالي من البحر المتوسط مثل؛ أثينا في اليونان ونيقوسيا في قبرص ونابولي في إيطاليا، ويلخص د.ميلاد أهم ما يميز الحقبة اليونانية الرومانية في الآتي:
1- عندما دخلت اللغة اليونانية مصر خلال القرن الثاني والثالث قبل الميلاد قام المصريون بإعادة كتابة اللغة المصرية القديمة بالحروف الإغريقية، فولدت لغة جديدة هي اللغة القبطية، وهي في حقيقتها لغة مصرية مكتوبة بحروف يونانية مع الاستعانة بسبعة حروف من اللغة الديموطيقية القديمة.
2- دخلت المسيحية مصر في القرن الأول وانتشرت بسرعة في حدود القرن الثاني، أي في الحقبة اليونانية الرومانية، وهنا غيرت مصر ديانتها الفرعونية إلى المسيحية.
3- استمرت جامعة الإسكندرية كمنارة لنحو ثمانية قرون منذ أن أنشأها بطليموس الأول حوالي 300 ق.م، وأحضر لها العالم ستراتون ليصبح عميدًا لجامعة الإسكندرية، فنقل لها الطابع العلمي والعقلي، الذي تميز بها الفكر الإغريقي، وأصبحت الجامعة منارة للبحث العلمي؛ فكان بها مرصد للفلك وحديقة حيوانات لدراسة علم الحيوان، وأخرى لدراسة علم النبات، بجانب دراسة الهندسة والرياضيات والفنون والآداب والفلسفة والطب والجغرافيا والتاريخ والموسيقى، وغير ذلك من علوم، وقد ألحق بالجامعة مكتبة هائلة ومتحف، وكانت المكتبة تضم نحو 700 ألف كتاب كان أغلبها على هيئة مجلدات، ولما ضاقت على سعتها تم إنشاء مكتبة أخرى عرفت بالصغرى، وضمت مكتبة الإسكندرية أساتذة عظام؛ منهم إقليدس صاحب النظريات الهندسية والرياضية الشهيرة للآن، وبطليموس الفلكي، الذي وضع أعظم مرجع في الفلك المعروف بـ"المجسطي"، ثم مصنف المرشد في الجغرافيا، وكذلك كان أرشميدس السراقوسي من تلاميذ جامعة الإسكندرية أيضًا، وغيرهم.
وظلت جامعة الإسكندرية حاملة مشعل الحضارة؛ وبفضلها ظلت الحضارة الإغريقية مزدهرة إلى العصر المسيحي، واستمرت باقية حتى عام 529م، وهو العام الذي يؤرخ به عادة لنهاية عصر العلم القديم والدخول في مرحلة العصور الوسطى، ويذكر أيضًا لجامعة الإسكندرية أنها قامت بترجمة التوراة من العبرية إلى اليونابية، وهي الترجمة المعروفة باسم السبعينية؛ فكانت إضافة دينية جديدة تحسب للمكتبة، وذلك قبل ظهور المسيحية.
هذا ملخص د.ميلاد للعمود الثاني للحضارة المصرية المتمثل في التأثير المتبادل بين الحضارة المصرية واليونانية والرومانية، وهي تأثيرات ترجع للموقع بشكل أساسي؛ حيث يسهل الانتقال بين الدول المتجاورة؛ لأن الجغرافيا لها تأثير كبير في صناعة التاريخ، ولذلك نتذكر مقولة جمال حمدان، "أن مصر فلتة جغرافية"، أو هي مكان يصعب تكراره؛ لأن هذا الموقع أتاح لها تراكم الحضارات، أو أعظم حضارات البشرية؛ فهي نتاج حضارات متتابعة متراكمة، كما يحق لمصر وللمصريين أن يفخروا - كما يقول مفكرنا الكبير جمال حمدان - بأن المحصلة النهائية أن مصر أعطت للعالم أكثر مما أخذت في مقياس الحضارات، وبأن الحضارة المصرية عبر التاريخ ساهمت بالنصيب الأكبر مقارنة بجميع دول العالم في الحضارة البشرية بوجه عام عبر كل الأزمنة، ونتذكر جميعا أن أرض مصر هي الأرض الوحيدة التي تجلى فيها المولى الكريم، ونادى فيها نبيه موسى عليه السلام في قوله تعالى: "وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143 الأعراف).