على مدار يومي السبت والأحد الماضيين، وعبر سبعة محاور، تصب في بناء الشخصية والهوية الوطنية، ودور مؤسسات الأوطان في ذلك، عقد بالقاهرة المؤتمر التاسع والعشرون للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ذلك العرس الدولي السنوي، الذي تنظمه وزارة الأوقاف تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي جاء تحت عنوان "بناء الشخصية الوطنية وأثره في تقدم الدول والحفاظ على هويتها"، بحضور مكثف من كبار علماء الفكر في الشريعة والتعليم والتربية والاجتماع بمصرنا الحبيبة ودولنا العربية والإسلامية.
وحسنًا فعلت وزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية وقياداتهما، حين اختارت تلك القضية الجوهرية الرئيسة، والتي بها نؤكد موقف الإسلام من حب الوطن، ونعزز بناء الفرد المسلم والعربي ونقيم شخصيته، ونقوي هويته، مع معرفة وإدراك كل مؤسسة من مؤسسات دولنا العربية والإسلامية ودورها المهم الرائد في ذلك، بدءًا من الأسرة، مرورًا بالمدرسة والمعلم، والمسجد والداعية، والمؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية، وكم كان ذلك المؤتمر موفقًا، حين سلط الضوء على تلك الأعمدة والمرتكزات التي بها نبنىي مجتمعاتنا عبر التبصير بتحديات المواطنة.
وعبر تفنيد دور المؤسسات الفاعلة المسئولة عن التحرك نحو التجديد الذي يشمل أهل العلم من شتى التخصصات، وعدم وقوفها عند الموروثات العلمية والثقافية للحفاظ على المجتمع، وإرشاده إلى المسلك الصحيح والعقيدة الإيمانية الراسخة، وإعداد نخبة من الدعاة والكوادر الإسلامية المعتدلة بعيدًا عن التطرف والتشدد، لإعادة دفع المجتمع إلى طريق الحضارة والتقدم، وفتح خطوط مباشرة للحوار الديني الثقافي مع من نختلف معهم في الآراء، وكون هذا الحوار فعالا، مستمرًا، قائمًا على الوسطية، مبتعدًا عن التشدد والغلظة مع هؤلاء المختلفين، حتى وإن كان في آرائهم ما يدعو للاستفزاز والغضب.
وإحقاقًا للحق، فيما سبق الحديث عنه من رؤى نوقشت في المؤتمر، كان العالم الجليل الدكتور الشيخ أحمد ربيع الأزهري - وهو من خيرة علماء الأوقاف الشباب الذي يثبتون بعلمهم وطرحهم ورؤاهم نحو مجتمعهم، أن مصرنا ومؤسساتنا الدينية ستظل بخير ما دامت الحياة على الأرض- قد حاز قصب السبق في طرح تلك المضامين المستنيرة الفكر والرؤى والبصيرة، عبر أطروحاته ومبادراته الفكرية الداعية والرامية للنهوض بمجتمعنا وأفراده، وعبر ما ناقشته معه فيها، وتأكيدي أيضًا على واقع وحال العقل المصري وأبرز تحدياته، وهل يمكن لنا صياغة مشروع فكري ديني ثقافي سلوكي بنّاء للعقل المسلم المصري؟ وكيف؟ فكان مما طرحه فضيلته لي: أن احتياجات الواقع تجعلنا نقضي على مشكلات واقعنا بالتركيز على فقه إدارة الأولويات، مؤمنا بأن عدونا هو الفقر والمرض والجهل، لذلك جعلت دعوتي تتركز على التعريف بكيفية القضاء على هذا المثلث البغيض، وناديت بأن هذه الأمة لن تنهض إلا "بعلم يرفع، ووعي يجمع، وعمل يدفع"، وأن مسلكها في التقدم والبقاء يكمن في ثلاث قيم "العلم، والسلم، والحلم"، "علم" نضع به أساس البنيان وأركانه، و"سلم" حتى ينمو ويتراكم، و"حلم" حتى إذا اختلفنا لا نهدم ما بنيناه.
وإذا كان مؤتمرنا قد ناقش دور علمائنا الأئمة والدعاة في تأثيرهم البيّن على تكوين وبناء شخصيتنا وهويتنا الوطنية، عمليا وليس أقوالا وبيانات تتلى، فإنه لجدير بي وحقيق علىّ أن أثمن وأقدر عرفانًا بالجهد المبذول من قيادات وزارة الأوقاف برئاسة الوزير محمد مختار جمعة على افتتاحه أكاديمية الأوقاف لتدريب وتأهيل الأئمة والواعظات وإعداد المدربين، والتي واكب افتتاحها وقائع المؤتمر، فكانت فاتحة خير لنجاح وتحقيق مراد مؤتمرنا عمليًا إن شاء الله، ونواة لدور أصيل رئيس لدعاتنا وأئمتنا في تكوينهم لتلك الشخصية والهوية الوطنية المنادى بها، ولتنهي تلك الأكاديمية، ومعها أكاديمية الأزهر، تلك المقولة التي أطلقها البعض وشاعت حينا من الدهر: "هزيمة الدعوة في عصرها الحالي يتحمل وزرها الأكبر دعاة فاشلون"، فلن تكون هناك هزيمة للدعوة، بل انتصار وتقدم ساحق في ميدانها، ولن يعد لدينا دعاة فاشلون بعد اليوم، في ظل تلك التقنيات التدريبية التأهيلية الحديثة المتقدمة، التي ستشمل كل دعاتنا وأئمتنا، وكل من ينتمي لحقل الدعوة الإسلامية بحول الله وقوته.
الآن أستطيع أن أجزم بعد اطلاعي وقراءتي لكل الأبحاث عظيمة الشأن التي قدمت في مؤتمرنا من علماء أجلاء في تخصصات شتى، أن أمتنا بخير، بعلمائها، وأراها كلها قد وضعت يدها على موطن الداء، واصفة الدواء، في طرح آخذ بعين الاعتبار، أساس العلل، وبيانها، دون مواربة أو استحياء مما تعانى منه الشخصية العربية والمسلمة، حفاظًا على هوية شخصية نشئنا وشبابنا من رياح التغريب والعولمة العاتية التي تستهدف اقتلاعهم من جذورهم، شريطة تفعيلها، ثم تفعيلها، وأنه آن الأوان لوضع رؤى متكاملة من كل مؤسساتنا، الدعوية، والتعليمية، والثقافية، والإعلامية، والاجتماعية المعنية، لتشخيص كل أمراض أمتنا على اختلاف أنواعها، السلوكية، والحضارية، والفكرية، والأمنية، والأخلاقية، والثقافية، وغيرها، تنشيطًا لهذه الشخصية والهوية الوطنية، وتأكيدًا لإحياء ذاكرتها الحضارية، وإعادة لثقة ذاتنا الإسلامية الوطنية، وأنها قادرة على الريادة والتأثير ليس في محيطنا العربي والإسلامي فحسب، بل في المحيط الإنساني كله كما كانت سلفًا، وحتى تكون درعًا يحمي مجتمعاتنا العربية والإسلامية ومواطنيها من طعنات الغدر المميتة التي يطعنها أعداؤها في قلب أمتنا، وحتى تحول نشئنا وشبابنا لأدوات إثمار وغرس في حقولها.