Close ad

ابن النيل يكتب: سر الحضارة (1)

16-1-2019 | 23:42

هل أبالغ إذا قلت إن الثقافة المائية تعتبر في الوقت الحالي ضرورة لا مفر منها، لا والله لا أبالغ، بل أزيد أنها واجب وفرض على كل مواطن سواء من خلال الاستفادة بما تقدمه حملات التوعية من معلومات مائية، أو بالاطلاع، أو السؤال المباشر، أو من خلال تطبيق القانون لمن لا يبغي إلا ذلك.

ولعل ذلك كان هو الدافع إلى الشروع في كتابة تلك السلسلة من المقالات لنتعرف معًا عزيزي القارئ على الدور الذي لعبته المياه في حياة الإنسان عبر التاريخ.. قناعة بأن إلقاء نظرة على تاريخ المياه يمكن أن يوضح لنا الصلة الوثيقة بين الاستقرار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين ما هو متاح من موارد المياه، وبما أدى بالعديد من المؤلفات قديماً وحديثاً إلى تعريف التنظيمات الاجتماعية التي ظهرت وتشكلت مع مطلع التاريخ بـ"الحضارات المائية" نسبة إلى نشأتها دوما حول مصادر المياه، ولذلك غالبا ما يشار إلى تلك الحضارات من خلال اسم النهر الذي نشأت حوله تلك الجماعات وتطورت، فنجد الحضارة المصرية وقد عرفت "بحضارة وادي النيل"، والأشورو ـ بابلية تعرف "بحضارة دجلة والفرات"، والهندية "حضارة الهندوس"، والصينية "حضارة الهوانج ـ هو".. إلخ.

ولم يصبح ذلك حكراً على الحضارات القديمة فقط، بل امتد أيضاً إلى الحضارات التي تطورت خلال حقب تاريخية أخرى أكثر حداثة، ونشأت أيضاً حول مصادر المياه، مثال ذلك كولومبيا، وحضارة بيرو وأمريكا الوسطى، التي نشأت حول الوديان الساحلية لأمريكا الوسطى والجنوبية، وأيضاً حضارة الخمير حول نهر الميكونج، وحضارات Elam & Suziana حول نهر ديز في جنوب غرب إيران، وحضارة هيلماند على طول نهر هيلماند بين أفغانستان وإيران.. إلخ.

عزيزي القارئ، ما يجدر بنا ملاحظته ونحن في تلك الجولة للتعرف على قصة المياه عبر التاريخ وفي أعماق الحضارات المختلفة - وبما يعكس إلى حد كبير أهمية المياه التي نسعى إلى ترسيخها في وجدان كل مواطن - أن جميع الهجرات البشرية الرئيسية التي عرفها التاريخ، وما اقترن بها من مولد وظهور المدن والمجتمعات قد ارتبط بدرجة كبيرة بالبحث عن المناطق الغنية بالمياه رغبة في الاستقرار حولها، حتى أن النقل والمواصلات في مراحلها الأولى كانت تتم من خلال الطرق المائية، وبما صاحب ذلك من فوائد ناتجة عن التبادل التجاري، وبما أعطى للمياه أهمية جديدة نتيجة لظهور استخدامات أخرى غير استخدامات الشرب والري.

ومع استقرار الجماعات الأولى حول موارد المياه وجدت نفسها عرضة لفيضانات متكررة وأحيانا مدمرة، وبدأ العقل الإنساني يفكر في الاستفادة القصوى من تلك المياه والحفاظ عليها باعتبارها سر الحياة، وبما وصل بهم إلى تقديسها وعبادتها في كثير من الحضارات، كما سوف نرى في مقالات قادمة إن شاء الله، وبدأت تلك الجماعات البشرية في إدراك الحاجة إلى حد أدنى من تنظيم المياه حتى يمكن الوفاء بالطلب على المياه، ولضمان توزيع عادل للمياه بين مختلف الاستخدامات، وبين مختلف المستخدمين، وانطلاقا من تلك الحاجة تطورت الأنظمة القانونية والإدارية المبكرة للمياه، وتنوعت في نشأتها وخصائصها، وتوقفت على العديد من العوامل الطبيعية والمناخية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية، وأيضاً العقائد الدينية والفلسفية للسكان، وكما سوف نلاحظ فقد تنوعت وتباينت التشريعات والتنظيمات تبعا لوفرة المياه، فنجد المناطق التي فيها وفرة مائية وقد اتجهت تنظيماتها المائية مباشرة نحو الحماية من خطر التأثيرات المائية الضارة التي يمكن أن تترتب على الفيضانات، وذلك بالتحكم في الفيضان، مقاومة اجتياح المياه، إصلاح الأراضي، تشييد الجسور والسدود وصيانتها.

وعلى جانب آخر، في المناطق التي كانت تعاني عجزا مائيا، ذهب التنظيم القائم نحو الحفاظ على المتاح من المياه، والتوزيع المناسب لتلك المياه القليلة بين الاستخدامات المختلفة.

وسوف نلاحظ أنه في التنظيمات المائية المبكرة، كان هناك ارتباطاً وثيقاً بين المياه والعقيدة الدينية، حيث ساد اعتقاد بأن المياه إما هبة أو منحة إلهية، في حين اعتبرها البعض الآخر عقاب من الطبيعة، وعلى جانب آخر نظر إليها البعض على أنها إله.

وبإدراك أهمية المياه في تحقيق التنمية، تبدت بوضوح الحاجة إلى وجود إدارة فاعلة لموارد المياه لصيانتها والحفاظ عليها، حتى يمكن تطوير التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والعمل على بناء الحضارات، فارتبط نمو وتطور الحضارات المائية المبكرة بدرجة كبيرة بمدى فعالية النظام الإداري والديني والقانوني المطبق على استخدام المياه، وسوف نرى بوضوح أن الضعف في إدارة المياه كان من الأسباب الرئيسية المؤدية للفشل وأحيانا الاضمحلال في الحضارات المائية المبكرة، ومن الأمثلة على ذلك اضمحلال الحضارة الأشوروـ بابلية، نتيجة لضعف التنظيم الإداري الخاص بالقنوات، الذي عجز عن التعامل مع مشكلة تراكم الطمي، كما سنجد من أسباب اضمحلال بعض الحضارات المائية تدخل الغزاة الأجانب وتدمير الأشغال المائية، وتمزيق الإدارة المائية القائمة، ومثال ذلك، ما حدث من تدمير للأشغال التي كانت على نهر هيلماند في القرن الرابع عشر بعد الميلاد على يد Tamerlane ـ أسفل الوادي في أفغانستان الحالية ـ وبما تسبب في اضمحلال مجتمع وادي هيلماند وإلى تصحر تلك المنطقة، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك كما سوف نرى.. إلى لقاء.

كاتب المقال: استشاري شئون المياه
[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: