ربما يكون افتتاح مسجد أو كنيسة من الأمور العادية؛ إذا ما قيس بعدد دور العبادة التي يتم افتتاحها على أرض مصر من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، إلا أن افتتاح أكبر مسجد وأضخم كاتدرائية، وبحضور الرئيس عبدالفتاح السيسي، وفي العاصمة الجديدة الوليدة؛ فإنه يحمل من الدلالات، ويبعث من الرسائل ما يصنع منه الحدث الأكبر والعمل الأهم الذي يستحق التوقف عنده بالتحليل والتدقيق؛ لأن المغذى لا يكمن في المبنى؛ بل في المعنى من تدشين هاتين المؤسستين الكبيرتين في العاصمة الجديدة لمصر الحديثة، والتي ترمز أيضًا للجمهورية الثانية في تاريخ الدولة المصرية العريقة، التي جاءت بها ثورة 30 يونيو المجيدة، التي أطاحت بنظام اتخذ من حرق الكنائس ونشر الفتنة الطائفية منهاجًا وبث روح الرعب وكراهية الآخر أسلوبًا.
وحين يعانق الهلال الصليب على وقع أجراس كاتدرائية "ميلاد المسيح"، وأذان مسجد "الفتاح العليم"، ليلة عيد الميلاد، بالعاصمة الإدارية في أول افتتاح رسمي لهما، فإن الرسالة واضحة والدليل قاطع والبرهان ساطع على أن مصر أرض محبة لكل الديانات وواحة أمن لكل الزائرين ووطن سلام لجميع الشعوب، وأن مصر - وهي تشيد عاصمة الجمهورية الثانية - تؤكد ثوابت وطنية راسخة ومبادئ تاريخية واضحة يرتكز عليها التعايش بين المصريين وتضرب بجذورها في عمق التاريخ، فأهل مصر الذين استقبلوا المسيحية عام 48 ميلاديًا، هم الذين احتضنوا الإسلام عام 642 ميلاديًا، ومنذ ذلك التاريخ ظل المصريون حراسًا على وحدتهم أمناء على وطنهم، ولم تفلح أي محاولات خبيثة أو مخططات شريرة أن تزرع الفرقة بينهم.
ولعل الخصوصية الدينية لدى المواطن المصري منذ فجر التاريخ، كانت هي الحاضن للدين والحارس على الوطن، ومنذ أن دخلت المسيحية مصر على يد القديس مرقس الرسول، استقبلها المصريون بقلوب مفتوحة، برغم أن النظام الروماني الحاكم كان مناهضًا لها ورافضًا لدخولها وتعرض المسيحيون على مدى نحو 3 قرون للبطش من الرومان بسبب الدين، إلا أنهم لم يستسلموا وتمسكوا بمسيحيتهم في صورة تعكس إخلاص المصري لعقيدته.
ومع فتح مصر على يد عمرو بن العاص، تم وضع أول لبنة في علاقة تاريخية بين المسلمين والأقباط على أرض مصر، وعلى عكس الرومان لم يجبر النظام الجديد أحدًا على تغيير ديانته، بل قام عمرو بن العاص بتأمين الأقباط على أنفسهم ودينهم وأموالهم وكنائسهم، وكان الحكم الإسلامي الذي امتد قرنين لمصر نموذجًا لترسيخ مبدأ التعايش بين أبناء الوطن وحرية العبادة.
ومن يطالع كتب التاريخ سيجد من مشاهد الوحدة الوطنية وصور التعايش السلمي بين المسلمين والأقباط ما يؤكد عراقة هذه العلاقة ويبرهن على أصالة هذا الشعب، والتي تتجلى في أبهى صورها، حين يكون النداء من الوطن فقد قاوم المصريون، مسلمين وأقباطًا الاحتلال الإنجليزي، وخرجوا في ثورات وخاضوا حروبًا من أجل وطن حر يملك قراره ويحدد مصيره.
واليوم، مصر وهي تخوض معركة البناء وملحمة التنمية الشاملة تقدم للعالم من عاصمتها الجديدة نموذجًا للتعايش وتبعث برسالة سلام عنوانها "مصريون في وطن واحد لا فرق بين مسلم أو مسيحي"، وأن تشييد الكنيسة بجوار المسجد في عاصمة مصر الجديدة هو امتداد طبيعي لحركة التاريخ المصري الذي أعلى من قيم حرية العبادة، كما أنه يأتي تجسيدًا لعقيدة وطنية مصرية راسخة كما جسدها الزعيم سعد زغلول في مقولته الشهيرة "الدين لله والوطن للجميع".
هكذا ستظل مصر عصية على الفتنة مهما كانت خطط المتآمرين ومخططات الكارهين، وحيل المتربصين.. ولعل الماضي القريب يشهد على ذلك حين حاول تنظيم الإخوان إشعال فتنة طائفية، وأطلق دعاة التشدد والتطرف للنيل من الأقباط عبر مخطط شرير؛ تضمن القيام بعمليات نوعية؛ سواء حرق الكنائس أو بعمليات إرهابية استهدفت جميعها ضرب الوحدة الوطنية، إلا أن يقظة المصريين أفشلت هذه المخططات، وأجهضت تلك المؤامرات، وها هو الهلال يعانق الصليب في سماء العاصمة الجديدة، معبرًا عن وحدة وطنية لا تنكسر بفضل وعي شعبها..
وكما جاء في الكتاب المقدس "أشعياء" عن مصر: "مبارك شعبي مصر".. وفي القرآن الكريم قوله تعالى: ".. ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ".. إنها رسالة مصر في "عيد الميلاد" إلى العالم.