لو أردنا أن نصف المرحلة السابقة التي امتدت لنحو نِصف قرن فيما يتصل بمكافحة العنف ضد المرأة، لقلنا إنها مرحلة غياب التشريعات، وإنها مرحلة المقاربات القاصرة.
في البدء، لم تكن مسألة بناء منظومة تشريعية متكاملة لمناهضة العنف ضد المرأة على جدول أعمال الدول، وكانت المقاربة الكلية الحاكمة لمواجهة حالات العنف ضد المرأة أنه يندرج ضمن الحيز الأسري الخاص.
وعليه، فإن أي دعاوى ترفع أمام القضاء للفصل في تلك الممارسات تعتبر ذات صبغة أسرية ليس لها صلة بالحيز العام، ولم تتضمن تلك المقاربة أن أي دعوى ترفع أمام القضاء للفصل في ممارسات العنف ضد النساء تتصل اتصالا مباشرًا بالمصلحة العامة، وأن المجتمع برمته معنيٌ بها على نحو مباشر.
وكنتيجة لتلك المقاربة القاصرة، درجت العادة في القضاء أن يجري الفصل في القضايا المنصبة على ممارسات عنف ضد النساء في إطار القوانين الجنائية التي تعاني بنيتها هي الأخرى خللا متمثلاً في أن تصور مفهوم العنف الذي استندت إليه صياغة الكثير من مواد القوانين الجنائية هيمن عليه نموذجٌ واحدٌ للعنف، وهو نموذج العنف الذي يمارسه شخص غريب في الطريق العام ضد الغير، أو نموذج العنف الذي يمارسه رجل ضد رجل خارج النطاق الأسري الخاص.
بتعبير أبسط، إن أحكام التشريعات الجنائية في الدول العربية أغفلت الطبيعة الخاصة للعنف الأسري الذي يمارسه أقرب المقربين من المرأة ضدها، وهو بدوره يغفل أُطُر القوة ومحاولة السيطرة الذكورية التي تهيمن على الحيز الأسري والخاص.
هذه الأطر جرى بناؤها عبر قرون لتجريد النساء من وسائل حمايتهن ولضمان إخضاعهن، وفي نفس الوقت لمنح الرجل مزايا متخيلة لارتكاب العنف ضد النساء، مع تصوير هذه المزايا على أنها حقوق.
لكن خلال العقد الماضي، شهدت المنطقة تحسنًا طفيفًا تَمَثَّلَ في انطلاقة موجةٍ لسن تشريعات جرت صياغتها تحديدًا ضمن سياق مكافحة العنف ضد المرأة في الدول العربية، والتي جاءت كثمرة لازدياد الإرادة السياسية وجهود المنظمات النسوية ومنظمات حقوق الإنسان.
لقد كشفت هذه المنظمات عن العوار الجوهري الذي تكتنفه تلك التشريعات التي تغفل أطر القوة ومحاولة السيطرة الذكورية، وما يترتب عليه من تهميش للمرأة في الأسرة والمجتمع.
فبدأت الدول العربية ترى أجزاءً أكثر من الصورة، وبدأت تعاين بعض التداعيات الأخرى التي لم تكن منظورة في السابق لممارسة العنف على المرأة والأسرة، فأدركت أن العنف ضد المرأة يلقي بأعباء ثقيلة على الموازنة العامة، ويرهق الاقتصاد ويقلص فرص الرفاه، كما أنه يجرح صورتها ومكانتها في الساحة العالمية؛ وعليه، أقدمت دول عربية على اعتماد حزم تشريعية مناهضة للعنف ضد المرأة، ولأول مرة نتابع عبر الشاشات أكثر من برلمان عربي وهو يناقش مشروعات قوانين بهذا الخصوص.
لكن يظل هناك شوطٌ لابد من قطعه حتى تُحقق التشريعات الثمار المرجوة من سنِّها، وهو إنعاش عمليات إنفاذ قوانين مواجهة العنف ضد النساء؛ حتى اليوم لا يزال مستوى إنفاذ القوانين متواضعًا، وهذا الضعف يجعل الجهود المبذولة على المستوى التشريعي تذهب أدراج الرياح.
هناك حاجة ماسة أن تنتفع قوانين العنف من مجموعة من المبادئ الإجرائية، والتي تسهم في تفسير تلك القوانين وتطبيقها تطبيقًا أساسه تحقيق الإنصاف والعدالة الناجزة للمرأة، بالإضافة لذلك، لابد أن تتضمن القوانين تدابير حماية، مثل إلزام المُدعى عليه بعدم التعرض للمرأة المدعية، وإلزامه بتحمل كلفة بعض آثار العنف مثل العلاج الصحي، وفي بعض الحالات، قد تكون هناك ضرورة لإيداع المرأة المدعية في مكان آمن على نفقة المدعى عليه لحين الفصل في الدعوى.
إن هناك علاقة تكاملية بين هذه التدابير والتشريعات التي جرى ويجري سنُّها، فغياب هذه التدابير الوقتية معناه تعطيل القوانين، ومعناه بالتالي إعطاء رخصة ضمنية لممارسة العنف ضد النساء، أيضًا، هناك شوط ثانٍ لابد من قطعه حتى تحقق تشريعات مواجهة العنف ضد المرأة الثمار المرجوة من سنِّها، وهو صياغة باقة من الخدمات، وضمان سلاسة استفادة النساء المعنفات منها؛ ومن أهم هذه الخدمات، المشورة القانونية التي تمكن المرأة التي تعرضت للعنف من مساءلة من مارس العنف ضدها، واتخاذ إجراءات ضده.
كما تضم الخدمات أيضًا البرامج التأهيلية التي تمكن المرأة المعنفة من عبور الأزمة واستعادة ثقتها بنفسها والعودة للمجتمع.
وضمن سياق توفير هذه الخدمات، لابد من إعطاء الأولوية لتدريب العاملين في مراكز الشرطة والقضاء والمستشفيات على تقديم المشورة للنساء اللاتي يتعرضن للعنف.
وعندما تحاول المرأة المعنفة إثبات واقعة العنف في مركز الشرطة، من حقها أن تجد من يوجه لها الأسئلة الصحيحة، ومن حقها أن تجد من يرشدها فيما يتصل باتخاذ الإجراءات الصحيحة؛ لاسيما في ضوء كثرة الإجراءات وتعقيدها، ومن حقها أن تجد من يُعرفها بحقوقها التي يكفلها لها القانون، وأن تجد من يقدم لها التدابير المؤقتة التي تستلزمها الحالة، أيضًا، من حق المرأة التي تعرضت للعنف ألا تتعرض لضغوط لتقدم تنازلاتٍ يستفيد منها من مارس العنف ضدها، وأن تتخذ جميع قراراتها خلال جميع المحطات بنفسها، وبناء على معلومات كافية ودون التعرض لضغوط.
أخيرًا وليس آخرًا، هناك شوطٌ ثالثٌ لابد من قطعه حتى تحقق التشريعات الثمار المرجوة، وهو الارتقاء بثقافة المجتمع لاسيما فيما يتصل بموضوع العنف ضد النساء، فلا يمكن أن نتوقع من أي تشريعات أن تؤتي ثمارها مادامت المقررات التعليمية تتجاهل العنف ضد المرأة، أيضًا، لن نخطو خطوة للأمام إذا ظلت منظومة التعليم والإعلام تغرس في الوعي الجمعي صورة مشوهة للمرأة من حيث تدري، ومن حيث لا تدري فتصورها ضمنًا ككائن مهزوز غير مُميز منقوص الإرادة.
أظن أنه قد آن الأوان لوقفة صارمة في وجه هذا الخلل الجوهري، وإن أول ركيزة ينبغي أن ترتكز عليها هذه الوقفة هي فهم أن المرأة إنسانٌ كامل، وفهم أن الآثار الوخيمة للعنف ضد النساء لا تقتصر على النساء، بل تنسحب على المجتمع برمته، فإذا استطعنا جميعًا أن نسد تلك الثغرات، سنصل إلى مجتمع سالم وآمن.
*كاتبة المقال:
مديرة مركز المرأة التابع للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا).