بعد أن قررت وزارة الأوقاف إلغاء تصريح الخطابة من الشيخ السلفي محمد سعيد رسلان، الأربعاء قبل الماضي، ومنعه من صعود منبر المسجد الشرقي بقريته سبك الأحد بمركز أشمون بمحافظة المنوفية، أو إلقاء أي دروس دينية بالمساجد لمخالفته تعليماتها المتصلة بشأن خطبة الجمعة، وإصدارها بيانًا شددت فيه على أنها لن تسمح لأحد كائنًا من كان بالتجاوز في حق المنبر أو مخالفة تعليمات الوزارة، أو الخروج على المنهج الوسطي، أو اتخاذ المسجد لنشر أفكار لا تتسق وصحيح الإسلام ومنهجه السمح الرشيد، وأنها لن تسمح لأحد كائنًا من كان شخصًا أو حزبًا أو جماعة باختطاف المنبر أو الخطاب الديني، وتوظيفه لصالح جماعة، أو أيديولوجيات منحرفة عن صحيح الإسلام، اشتعلت الحرب الكلامية من الهجوم المتبادل بالتراشق بالألفاظ ، سبابًا وخروجًا عن أخلاق ديننا، وتكفيرًا لبعضهم بعضًا، من الجماعات السلفية باختلاف أيديولوجياتها، بينهم وبين بعض من جهة، وبينها ككل وبين الصوفية من جهة أخرى، في مشهد ضبابي مخز وفاضح لأناس يفترض أنهم دعاة إلى الله على بصيرة، يتخذون من نبينا القدوة الحسنة، ومن الدعوة الإسلامية جسرًا ومعبرًا يعبرون ومن يدعونهم إلى الجنة وإلى الطريق القويم المستقيم.
إذ بمجرد أن أُلغي تصريح خطابة رسلان، إلا وكانت الفرحة عارمة من أنصار الدعوة السلفية بالإسكندرية، الذراع السياسية لحزب النور السلفي، فأصدر سامح عبدالحميد، أحد كوادرها سلسلة بيانات هجومية "سبابية" ضد محمد سعيد رسلان، الملقب بزعيم السلفية المدخلية، يتهمه فيها بأنه يتناول المشايخ والدعاة بالقدح والشتم والسب، وغيرها من الاتهامات.
ثم رأينا حسين مطاوع، أبرز أنصار محمد سعيد رسلان، يرد موجهًا سبابه وألفاظه إلى الإخوان والدعوة السلفية بالإسكندرية وحزب النور، واصفًا إياهم بقوى الشر، وأنهم والإخوان يستخدمون التقية كما يستخدمها الرافضة تحقيقًا لأهدافهم الحزبية وللوصول لأكبر شريحة ممكنة من عوام الناس، ناصحًا: فلنحذر هؤلاء ولنحذر الناس منهم، بالإضافة لهجوم ضار على ياسر برهامي، أحد كوادر الدعوة السلفية بالإسكندرية وتكفيره، مضيفًا: "لم يكن حزب النور ولا هذه الدعوة الحزبية السكندرية يومًا مع الوطن، فهم والإخوان الإرهابيون يكملان بعضهم، والأمر فقط تبادل أدوار بينهما".
ثم كان تحذير القيادي السلفي أحمد هلال، وقبل أن يقع السلفيون بانتماءاتهم المختلفة في بعضهم بعضًا، ومطالبته بتكاتف السلفيين ضد الصوفية، مؤكدًا أن منهج محمد سعيد رسلان برغم خطورته، إلا أن منهج الصوفية أشد خطرًا؛ لأن خطورة التصوف على العقيدة، بخلاف خطورة رسلان لمن تعرف على منهجه، فيرد عليه شيخ الطريقة الشبراوية، الشيخ عبدالخالق الشبراوي، أن السلفية مجموعة من المرتزقة، ولدينا خلاف بين أفكارهم من قديم الزمن، وأن السلفية البوق الرسمي للجماعات الإرهابية، وعلى رأسها "القاعدة" و"داعش"، ووجودهم على المنابر أو المساجد خطر كبير على المجتمع ككل، لأنهم يروجون لفكرهم التكفيري! ثم يدلو الشيخ علاء أبوالعزايم، شيخ الطريقة العزمية، ورئيس المجلس العالمي للطرق الصوفية بدلوه أيضًا على السلفية، بالكثير من الانتقادات الفكرية الجوهرية اللاذعة، التي توضح مدى العداء بين السلفية والصوفية.
مشهد مخزٍ ومحزن ويدمي الفؤاد، أن يرى ويسمع العوام والعالم كله تلك الحرب الضروس بين تلك الجهات الإسلامية الدعوية التي لكل منها أنصارها ومحبوها، لكون الأمر لا يلتصق بتلك الجهات التي من المفترض أنها دعوية، بل يلصق بالإسلام وشريعته وعقيدته، يدلل على حديثي الدكتور حسن خليل من علماء وزارة الأوقاف في دراسته القيمة الممتعة الشاملة التي فاز بها بجائزة وقف المستشار محمد شوقي الفنجري لخدمة الدعوة والفقه الإسلامي للعام الجاري 2018 "التحديات المعاصرة التي تواجه الدعوة الإسلامية وكيفية مواجهتها"، حين ذكر أن من أهم وأخطر المشكلات التي تعترض الدعوة الإسلامية الاستبداد بالرأي والإعجاب به، حيث يصعب التعاون مع شخصية المستبد برأيه المعجب بنفسه؛ لأنه يستصغر الآخرين ويحقر رأيهم، ويستعظم نفسه، ولا يثق إلا برأيه، وفي ذلك الهلاك، وأيضًا الغلو في تكفير الناس، حيث هذه من أهم المشكلات التي تنبثق عن الضغط النفسي لدى من لم يضبط نفسه بقواعد العلم وأحكام الكتاب والسنة، وكذلك ظهور بعض الدعاة الذين ليس هدفهم الدعوة في الأساس، بل هدفهم الشهرة والمجد الرخيص، وتجنيد الأتباع لخدمتهم والسير في مواكبهم واستنفاد طاقاتهم في الهوى، ومنعهم من الاستماع لغيرهم، وإغلاق آذانهم حتى لا يتسرب الحق إليهم، وهم بهذا يحترفون تضليل الشباب.
بل يتعجب فضيلته وأنا معه حين يشير إلى أن من أكبر الأخطاء، أن ينصرف المسلمون عن إصلاح حالهم وتقويم سلوكهم، ليستعيضوا عن ذلك بالاتجاه إلى الأمم الأخرى ليدعوهم إلى الله، وليرشدوهم إلى الإسلام والتمسك بآدابه وأحكامه! ليؤكد أن تلك الأمم محجوبة عن الإسلام وحقيقته، وحب الإقبال إليه، بسبب ما تراه من واقع المسلمين وسوء حالهم، أكثر من أن تكون محجوبة عنه بالجهل به أو سوء الفهم له، وهذا ما أكده لي كل علمائنا أئمة المراكز الإسلامية بالغرب الأوروبي وأستراليا في كل حواراتي معهم عن أحوال المسلمين والدعوة الإسلامية هناك للأسف.
بعد كل تلك المشاهد السوداوية الفوضوية المأساوية السابقة، أراني أتساءل، هل هؤلاء دعاة مخلصون بحق لله على بصيرة وهدى؟ وهل يمكن أن نتقبل منهم دعوة أو عظة أو نصيحة في ديننا وأخلاقنا وسلوكنا؟ أجدني ولعلكم تتفقون معي أن الإجابة بالنفي.
لكن نطمئن بوجود علماء وأئمة أزهرنا الشريف و"الأوقاف" المخلصين، الحصن الحصين والملاذ الآمن للدعوة الإسلامية في بلادنا.. وربنا يهدي ويرزقنا الإخلاص.