وسط صمت غريب وغير مبرر يتوالى هبوط البورصة المصرية، ويهبط المؤشر ٤٤٠٠ نقطة من دون أي زلزال سياسي يبرر هذا الانخفاض، ولم يعرف أحد من المستثمرين الجادين سببًا لتبخر مدخراتهم؛ خاصة أن المناخ كان مبشرًا.
وكان العام الماضي هو عام جذب مستثمري المحافظ بعدما تخطت عائدات أدوات الخزانة المصرية قصيرة الأجل ٢٢٪، وذلك عندما رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، وفِي الوقت نفسه جلبت أدوات الدين مرتفعة العائد لمصر أعدادًا كبيرة من المشترين الأجانب، والعملة الصعبة التي تحتاجها البلاد بشدة؛ حتى وصلت حيازات الأجانب من أدوات الخزانة المصرية نحو ٢٠ مليار دولار في شهر فبراير الماضي مقارنة بـ٦٠ مليون دولار في منتصف ٢٠١٦ قبل تعويم الجنيه، وهو ما أسهم في عودة المستثمرين الذين غادروا البلاد بعد فوضي يناير.
ونتيجة لتلك الإجراءات ارتفعت الاحتياطيات في البنك المركزي لأكثر من ٤٢ مليار دولار طبعًا بعد بيع سندات بقيمة ٤ مليارات دولار، وهكذا عرفت السياسة النقدية كيفية التعامل مع الوضع والسيطرة عليه، غير أن ماحدث بعد ذلك من إجراءات التقشف ووصول معدل التضخم لنحو ٣٣٪، ومع تخفيضين متتاليين لسعر الفائدة، عادت الأوضاع للتدهور مرة أخرى، ودون الدخول في تفاصيل مصطلحات نقدية، كان يفترض أن يتم تخفيض سعر الفائدة بالتدريج، وبعد ضمان الحد الأدنى من الاستثمارات الحقيقية في مشروعات إنتاجية وليس استثمارات ورقية.
ونتيجة لذلك اتجهت رؤوس الأموال للاستثمار في البورصة كفرصة بديلة للاستثمار في أذون الخزانة، خاصة مع اقتراب طرح الشركات العامة في البورصة، خاصة مع وجود أسماء مضمون ربحيتها كبنك القاهرة والتعمير والإسكندرية، بالإضافة لعدد كبير من الشركات الرابحة المزمع طرحها.
وفِي ظل ذلك المناخ والتنافس مع العديد من الأسواق التاشئة بسبب تخفيض سعر الفائدة في مصر وارتفاعها مثلا في تركيا إلى ٢٤٪؛ وكذلك في نيجيريا والأرجنتين وأوكرانيا بنقاط أعلى بكثير من مصر، وكان يمكن للسياسة النقدية المصرية أن تتخذ خطوة موازية لتخفيض سعر الفائدة مثلا باستثناء الأجانب من الضريبة الحالية البالغة ٢٠٪ على أرباح أدوات الخزانة العامة؛ كما يفعل بعض المنافسين في المنطقة، وهكذا أصبحت الأسواق الناشئة هي الواجهة المفضلة لهروب رؤوس الأموال الساخنة التي تسارع بالتسييل عند أي إحساس بالقلق أو التوتر، ثم كان أن رفعت أمريكا سعر الفائدة، فقرر بعض المغامرين التوجه للأسواق الأمريكية، لأنها مضمونة عن كل الأسواق الناشئة، وكما هو معروف، فإن الأموال الساخنة سرعان ما تدخل الاقتصاد وتخرج منه باحثة عن فرص استثمارية أخرى ذات أرباح أعلى، ولذلك خرجت من مصر أكثر من خمسة مليارات دولار خلال الشهور الست الماضية، وظل البنك المركزي صامتًا لايتدخل في وقف تلك الهجرة الدولارية من مصر لبعض الأسواق المنافسة، خاصة للأرجنتين التي رفعت سعر الفائدة لنحو ٤٠٪، وإذا استمرت تلك الهجرة، ستعصف بالجنيه أمام الدولار؛ خاصة في ظل ثبات سعر الصرف لنحو عامين بحماية البنك المركزي.
والمثير في مسألة الأموال الساخنة، إنها غير نظيفة، ويقوم بعض المغامرين بعمليات غسيل لها في البورصات، وهناك دول تعتمد اقتصاداتها على تلك الأموال غير النظيفة، وهناك كبار المصرفيين من يفتخرون بها ويتعاملون معها على أنها مؤشر قوي على تعافي الاقتصاد وزيادة قدرته على جذب رؤوس الأموال الأجنبية وتنامي ثقة المؤسسات الدولية المالية.
وربما يكون هناك بعض المنطق؛ خاصة للدول التي تعاني اقتصاداتها من جفاف العملات الصعبة، ولكن بشرط وضع سقف زمني لوجودها داخل البلاد؛ بحيث لا تغادر الدولة قبل مرور فترات زمنية محددة؛ حتي يستفيد الاقتصاد منها أو فرض ضرائب على تلك الأموال، ولكن في ظروف دولة كمصر تزداد ديونها، ومطلوب منها فوائد بالمليارات سنويًا لا تستطيع فرض تلك الشروط على الأموال الساخنة، وكما هو معروف أن الدين العام تضاعف خمس مرات منذ ثورة يناير.
والأمر كذلك؛ فقد حان الوقت للسياسات المالية بالبعد عن تحميل السياسات النقدية أي قرارات غير اقتصادية، وعدم تسييس القرارات الاقتصادية، وترك البنك المركزي يرفع سعر الفائدة؛ لوقف هجرة الأموال الساخنة، بدلا من إطلاق سياسات الاقتراض، والأهم وجود وزارة أو هيئة تختص بإدارة الديون وهيكلتها، والتفاوض لتحويل الديون قصيرة ومتوسطة الأجل لطويلة الأجل.