ساعات قليلة ويبدأ عام دراسي جديد، يحدو فيه الأمل والتفاؤل والثقة بالله في النجاح والفلاح والتوفيق أبناؤنا الطلاب، وقد حظي العلم بمكانة عظيمة في ديننا،
فكان الإسلام دين العلم والحث عليه والتمسك به، ولما ذلك لتمام كمال الدنيا والآخرة عند المسلمين ونبيهم صلى الله عليه وسلم ، فلم يدعو نبينا للدنيا على حساب الآخرة ولم يدعو للأخيرة على حساب الأولى،
ولبيان منزلة العلم والعلماء أورد كتابنا المقدس القرآن الكريم الكثير من الآيات الدالة على ذلك، فقال تعالى"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ"، وقال الله تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، وإمامنا الشافعي يخبرنا عن فضل العلم فيقول: "طلب العلم أفضل من صلاة النّافلة".
وقد عرف إمامنا ابن القيم العلم تعريفا جامعا مانعا جميلا، حوى كل فضائله وأوصافه فقال عنه: العلم هاد، وهو تركة الأنبياء وتراثهم، وأهله عصبتهم ووراثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال، به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، وبه اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومنه دخل عليه القاصدون، وبه تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال والحرام، وبه توصل الأرحام، وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب، وهو إمام، والعمل مأموم، وهو قائد، والعمل تابع، وهو الصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه، والكنف الذي لا ضيعة على من أوى إلى حرزه، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة ومدارسته تعدل بالصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام.
ولما كان للعلم من الأهمية بمكان وجدنا أول سورة نزلت به تأمر بالعلم والقراءة، فقال تعالى" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"، ويذكر لنا القرآن الكريم أن الله تعالى علم سيدنا آدم الأسماء كلها بعد خلقه، وسرده لقصة نبي الله موسى وتكليف الله تعالى له بالالتحاق بالعبد الصالح ليتعلم منه عند مجمع البحرين، ووجدنا في سنة نبينا كيف أن العلم كان فداءً لبعض أسرى بدر بتعليم بعض المسلمين.
ويرشدنا نبينا الحبيب إلى فضل طلب العلم في أحاديثه الشريفة ليعلم كل طالب علم أن رسالته في تحصيل العلم شريفة ومثمنة، وليكون تحصيله واجتهاده مبنيا على أساس متين من الثواب الجزيل المنتظرة بحول الله ومشيئته، فيذكر نبينا صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
ولكل طلابنا أتوجه إليهم بتلك النصائح الراشدة ، لعلها تكون عونا لنا ولهم على أداء رسالتهم، وأبدأها بتذكيري وإياهم بتقوى الله وإخلاص النية لله والهمة في طلب العلم، قال تعالى: "وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ"، والصبر والتحمل في رحلتهم الدراسية ، وألا يمنعهم خجلهم من سؤال ما لا يفقهوه من درسهم، ولذلك قال بعض السلف: " لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر"، كما عليكم اختيار الصاحب النبيه ذو الأخلاق الحسنة، يقول شيخ الإسلام وقاضي القضاة في الشام ومصر وخطيب المسجد الأقصى والجامعين الأزهر والأموي ابن جماعة الكناني: "الذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه، فإن شرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه ولا يفيده ولا يستفيد منه ولا يعينه على ما هو بصدده فليتلطف في قطع عشرته من أول الأمر قبل تمكنها، فإن الأمور إذا تمكّنت عسرت إزالتها".
كما عليكم أبناؤنا بالمحافظة على أوقاتكم، ولنا المثل والقدوة في الإمام جمال الدين القاسمي الذي عاش خمسين سنة، وألف ما يزيد على خمسين مؤلفا، وكانت حياته زاخرة بالعلم القدوة الحسنة، كان قوله: "يا ليت الوقت يباع فأشتريه"، كما عليكم بالدعاء، تلك السنة المهملة، حيث كان نبينا يدعو قائلا: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ".
على أن للأبويين دورا مهما كبيرا في النهوض بأبنائهم بالعملية التعليمية؛ وذلك بحث أولادهم وتشجيعهم على طلب العلم والتأدب والتخلق بأخلاق أهل العلم ، وتربيتهم علي حسن الاستماع ، يقول الحسن البصري في وصيّته لابنه رحمهما الله: "يا بني إذا جالست العلماء فكن على السمع أحرص منك على أن تقول، وتعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن الكلام"، كما عليهم تربيتهم على التحلي بالنشاط وعلو الهمة واكتشاف قدراتهم ومواهبهم والعمل على تنميتها، حيث تقول بعض الدراسات التربوية "إذا تم اكتشاف موهبة الطفل مبكرا فسيصبح بالإمكان التعامل معها بغرض تطويرها وتحسينها".
كما ينبغي على إخوتنا المعلمين أن يضعوا أنفسهم دائمًا موضع القدوة، متحلين بالإخلاص والتقوى والإشفاق على المخطئ وعدم تعنيفه وتشجيع المحسن والثناء عليه، والله أسأل أن يجعله عام نجاح وفلاح وتوفيق علينا جميعا وعلى كل أبنائنا الطلاب.