هي ما دفعت أنثى التمساح إلى سماع صوت صغارها الواهن من تحت الرمال، فور انشقاق قشرة البيض عنهم، فتراها تقفز على اليابسة، تنبش الأرض لتخرجهم من الحفر، وتنزلهم إلى الماء، إنها غريزة الأمومة التي أودعها الخالق في الكائنات، رحمة ونعمة بمخلوقاته، فبدونها من ذا الذي يحتضن صغيرًا غير مكتمل النمو، ويوفر له الغذاء والأمان، وهى تدفعه بدون تردد في التضحية بنفسه دفاعًا عن حياة الوليد، أما في حال الإنسان تتدفق غريزة الأمومة في العطاء والحنان، إلى ما بعد اعتماد الصغير على نفسه، فحب الأم لا يشيخ أبدًا، ومهما طال بالإنسان العمر يحتاج إلى أمنها وحنانها، وغريزة الأمومة تتشابه مع غريزة البقاء.
والأم هي أصل كل شيء، ويخص القرآن الكريم كلمة الأم بالأصل الطيب والمقدس، فمثلا مكة المكرمة ذكرها بأم القرى، لأنها مهبط الوحي، وأيضًا تعنى أصل القرى، وقرنها في موضع آخر بأم الكتاب، وفي معنى ثان تدل على أنها فاتحة الكتاب، ويقال الأرض أم البشر، فمنها خلق الإنسان، وجاء في قوله تعالى: " وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا"
وفرَّق في كتابه العزيز بين المعنى المقدس للأم، وبين كلمة الوالدة، فقال تعالى: " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ" والوالدة لفظ يطلق على كل امرأة تنجب، أما حين يطلق لفظ أم يقرنها بالمرأة الصالحة، كما وردت عن السيدة مريم « وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ»، وكذلك عن أم موسى في قوله تعالى: " وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا" وزيادة في تقديس كلمة الأم، نسبها الرحمن إلى نساء النبي "صلى الله عليه وسلم" بكلمة الأمهات، وقال تعالى: "النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ".
أما الوالدة فأطلقها على المرأة التي تنجب بغض النظر عن صفاتها الطيبة أو الذميمة، ويتجلى مقصد المعنى في الوالدات اللاتي ارتكبن أبشع الجرائم في حق أبنائهن، وكان آخرها حادثة كفر الشيخ، فمنذ أيام وقبل عيد الأم، نُشرت صور على مواقع التواصل الاجتماعي لطفل لم يتجاوز عمره السنوات الثلاث، توضح تعرضه لتعذيب وحشي على يد والدته، وكانت تسكب الماء المغلي على جسده الضعيف، وأخرى قتلت رضيعتها بالساطور لرغبة زوجها في إنجاب الذكور، فهنا يحق عليهن انتزاع لقب الأم منهن، ومع ذلك شدد المولى بالوصاية على الوالدين، حتى وإن دفعك إلى الشرك به، ولا يعني هذا أن تلك الأمهات ولدن بدون غريزة الأمومة، ولكنهن تعرضن لخلل نفسي نتيجة لنشأة اجتماعية فاسدة، أو إصابتهن بأمراض نفسية.
ولا ينقطع بر الوالدين بعد وفاتهما، فقد حض المولى عز وجل على الدعاء لهما « وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا»، وأن يصل رحمهما ويود أحبابهما وأصدقاءهما، أما الحديث المتواتر في قوله (لقد ماتت التي كنا نكرمك من أجلها)، فهو لا صحة له كما أكد أكثر العلماء، وكان من ضمن أسانيدهم قوله: «يا فاطمة لا أغنى عنك من الله شيئا».
والأم كانت ومازالت تفيض نبعًا للأدباء والمفكرين والعلماء، فقال عنها شاعر النيل حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
ولما تحمل كلمة الأم من قدسية لدى قلوب الجميع، سارع فرنسيس بابا الفاتيكان بالتنديد على تسمية وزارة الدفاع الأمريكية لقنبلة ضخمة باسم أم القنابل، وقال إن لفظ أم لا ينبغي استخدامه للإشارة إلى سلاح فتاك، فالأم تمنح الحياة، وعلى نفس السياق صار هذا الاسم الفضيل ينسب إلى كثير من العمليات العسكرية، مثل أم المعارك وغيرها.
وفى تلك الأيام المباركة نقدم جميل الثناء وخالص التقدير لكل خنساء ولكل أم شهيد، قدمت أفضل عطائها وأثمن ما تملك لله وللوطن، فالخنساء كانت أما بما تحمله الكلمة من قدسية، فحينما رفعت رايات معركة القادسية، أوصت فلذات أكبادها الأربعة بالثبات وبقوة العزيمة في مواجهة العدو وقتالهم كي يظفروا بغنيمة دار الخلد، وعندما بلغها خبر استشهادهم جميعا، قالت الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم في سبيل الله، وأرجو ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.