في مهمة تاريخية غير مسبوقة، تكتب وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" التاريخ، وتخطو أول خطوة في طريق الألف ميل، وتعمل على جعل المستحيل ممكنًا، بالوصول إلى الشمس ولمسها دون أن نحترق، وهى لاشك ثورة علمية في فهم هذا النجم العملاق..
يأتي ذلك مع إطلاق "ناسا" الأحد الماضي 12 أغسطس، أول مركبة فضائية تدعى "باركر" مصممة لعبور الغلاف الجوي الخارجي للشمس، والذي يُعرف بـ"هالة الشمس"، وتوصف المركبة بأنها "بطل مذهل للمجتمع العلمي، وأن مهمتها هي الأهم في إستراتيجية ناسا".
"ناسا" تمكنت - منذ نشأتها وحتى الآن - من تحقيق عدد كبير من أهدافها المتعلقة بالكون الخارجي، بما في ذلك تليسكوب الفضاء "هابل"، والمركبة الفضائية "فوياجر"، وبرنامج "أبولو"، إلا هدفًا واحدًا، وهو محاولة إلقاء نظرة فاحصة على الشمس، مصدر ضوء الأرض والحرارة، والتي ظلت لغزًا مُحيرًا منذ اكتشاف الإنسان قدرته على إرسال سفن إلى الفضاء الخارجي.
لذا ينصب تركيز "باركر" على هالة الشمس، والتي لا يمكن رؤيتها من الأرض إلا وقت الكسوف الكلي للشمس، لتحل ألغازًا أساسية وطويلة الأمد عن الشمس: ما سر هذه الهالة الحارقة التي تتجاوز مليون درجة مئوية؟ لماذا هي أشد حرارة من سطح الشمس بنحو 300 مرة؟ وما الذي يحرك الرياح الشمسية؟ وما أسباب العواصف الشمسية التي تشبه "نوبات السعال القوية".
وبمعنى أوضح، نتائج المهمة التي تتكلف 1.5 مليار دولار، ستساعد الباحثين للوصول إلى فهم أعمق للرياح الشمسية، وستسهم في تحسين توقعاتهم لأحداث الطقس في الفضاء، والتي قد تؤدى إلى الإضرار بالأقمار الصناعية، وإلحاق الأذى برواد الفضاء، وتشوش على الاتصالات اللاسلكية، وفى أحلك الظروف، تدمر شبكات الكهرباء.
ولأنهم يقدرون علماءهم أطلقوا على المركبة الفضائية اسم عالم أمريكي ما زال حيًا، وهو عالم الفيزياء الفلكية الشهير "يوجين باركر" "91 عامًا"، والذي كان أول من طور نظرية الرياح الشمسية عام 1958، وبدورنا نتمنى أن يأتي يوم ونطلق حتى على الميادين الجديدة الكبرى، حبذا لو كانت في العاصمة الإدارية، أسماء علمائنا من أمثال مصطفى مشرفة، وسميرة موسى، ويحيى المشد، ومجدي يعقوب، ومصطفى السيد.. وغيرهم الكثير، حتى تظل أسماؤهم محفورة في ذاكرة كل مصري.
هذه المركبة تحقق حلمًا يراود العلماء منذ 60 عامًا بإرسال مركبة يمكنها المرور عبر الحرارة الشديدة لهالة الشمس دون أن تحترق، مهمتها تستمر سبع سنوات حتى 2025، وستقترب في أقرب مسافة يمكن الوصول إليها حتى اليوم من الشمس، وهى 6 ملايين كيلومتر تقريبًا، وهى مسافة تعد قريبة جدًا من هذا النجم الملتهب الذي يبعد عن الأرض 150 مليون كيلومتر!
ولكن كيف يتم حماية هذه المركبة من الحرارة الهائلة التي تصل إلى 1400 درجة؟
السر في ذلك هو تحصينها بدرع حرارية من الكربون، والتي تجعل درجة الحرارة داخل المركبة لن تزيد على 29 درجة مئوية فقط!! وحين تقترب "باركر" من الشمس، ستكون سرعتها عالية جدًا "700 ألف كيلومتر في الساعة"، وهى سرعة تكفي للانتقال من نيويورك إلى طوكيو في دقيقة واحدة.
ومع هذه السرعة البالغة، ستكون أسرع آلة أطلقها الإنسان إلى الفضاء، وستحلق المركبة، التي وصلت بالفعل إلى الفضاء، ونشرت ألواحها الشمسية، فوق كوكب الزهرة في أكتوبر المقبل، وستبدأ في نقل ملاحظاتها العلمية الأولى في ديسمبر 2018، وستقترب المركبة 24 مرة من الشمس خلال السنوات السبع المقبلة!
مركبة "باركر" ليست المحاولة الأولى لفهم الشمس، فوكالة ناسا لديها تاريخ مُمتد من المهمات المخصصة لفهم الشمس فقط. فقد أطلقت ثمانية مراصد مدارية لدراسة الشمس من مدار الأرض في الفترة بين 1962 و1971، وأربع مركبات فضائية، كانت آخرها المركبة "سوهو" التي أُطلقت في عام 1995، وكانت نتائجها العلمية مذهلة، برغم موقعها البعيد عن الشمس، فقد قاست سرعة الرياح من الشمس، واكتشفت أمواج الهالة الشمسية والأعاصير الشمسية، ووجدت أكثر من ألف مُذنب.
لكن كل هذه المراصد والمركبات كان يقابلها مشكلة الاقتراب أكثر من اللازم، فالاحتراق إما أن يكون تأثرًا بالحرارة، وإما بالإشعاع الشمسي؛ وهذا هو تحديدًا ما يميز مركبة "باركر"، بفضل الدرع الحرارية من الكربون التي تمكنها من الاقتراب كل هذه المسافة من هالة الشمس دون أن تحترق.
اللوحة المعدنية التي ألصقتها "ناسا" على المركبة وتهدي بها المهمة إلى العالم "باركر"، كتبت عليها اقتباسًا بليغًا له: "لنر ما ينتظرنا"..
ونحن بدورنا ننتظر ما سيرونه، لكننا بالتأكيد لن نتجاوز مرحلة "الانبهار اللحظي" بالحدث، ثم يطويه النسيان عمدًا، ونعود لمتابعة برامج اكتشاف "المواهب الغنائية"!