مشكلة هذا البلد أنه يعيش في مرحلة انتقالية، وآلام مخاض منذ يوليو ١٩٥٢، لم يسفر عن أي فكر جديد يدير حياة المصريين؛ ولهذا راحت مصر تتنقل بين عدة تجارب سياسية واقتصادية، وكتبت عدة دساتير لم يكتب لها البقاء أو الاحترام، وللأسف فشلت معظم الأنظمة في أن تستخرج من الناس أحسن ما فيهم.
بدليل أن نفس البشر الذين ينتهكون القوانين - بدءًا من إشارة المرور، وانتهاء بعدم الإنتاجية - تجدهم في الخارج ملتزمين، بل وأكثر إبداعًا؛ لأن من يديرون الحياة هناك أكثر كفاءة وعدالة في التقييم، بلا امتيازات أو استثناءات لشلة المحاسيب.
وكان يمكن لهذا البلد أن يكون في وضع مختلف تمامًا عما هو عليه الآن؛ إذا استمر في مسيرة النهضة التي توقفت بعدما قطعت مصر خطوات مبشرة منذ قرنين، ومعها توقفت الطموحات التي جعلت مصر تمتلك خطوطًا للسكة الحديد قبل أي دولة في القارة، وتقيم صناعات للنسيج والسينما، وتمتلك الحيوية السياسية وقوى ناعمة وطبقة مثقفة وخبرات في كل العلوم.
وبمعايير تلك الأيام كانت مصر تسير بسرعة الصاروخ؛ لتصبح دولة عظمى حتى جاء زمن تكسرت فيه الإرادة والطموحات، وتراجعت الأحلام تحت لافتات وشعارات، وجاء من يبدع في إدارة الفقر - وليس الثروة - ليصبح الطموح التمرغ في تراب الوظيفة الميري؛ لتسود عقلية الموظف بدلا من المبدع، والبيروقراطي بدلا من السياسي، وأهل الثقة بدلا من أهل الخبرة والكفاءة، وانزوى العقل والمنطق لمصلحة الحناجر.
وخلال أكثر من نصف قرن لم تقدم الأنظمة المتعددة رؤية متكاملة للمستقبل، فظلت مصر تعيش فترات انتقالية دومًا تحت مبررات المؤامرة المستمرة، برغم أن دولًا مثل اليابان وألمانيا وفيتنام تم تحطيمها فعلًا ولم تجلس لتبرر وتشكو؛ ولكنها حولت المِحنة إلى منحة، وصارت دولًا كبرى، والأمر هكذا فليس لدى مصر وقت لإضاعته في إعادة اكتشاف العجلة.
ومن المعلوم بالضرورة أن البسطاء غالبًا ما يدفعون وحدهم فاتورة أي برامج إصلاحية، وألِف باء البدايات الصحيحة هي نقد الماضي الذي خلق تراكمات تركت بصماتها على كل ما يتعلق بالحياة اليومية للمصريين، فقد تعود المصريون منذ القدم أن كل نظام جديد ينسب الخراب والفساد لمن سبقوه؛ لدرجة أن الناس لم تعد مقتنعة بالشعارات المرفوعة، فقد ظل نظام يوليو٥٢ يؤكد أن مصر كانت وسية لأسرة محمد علي، وأن تلك الأسرة دمرت مصر والمصريين.
وراح النظام الثوري يقنع الشارع بالمبادئ الست، ومرت الأيام ولم يتحقق منها شيء، ثم جاء السادات وتكررت الحكاية، والأمر نفسه فعله مبارك، وبعد ٢٥ يناير تم عزف نفس المقطوعة؛ لدرجة أن المرء يظن أن كل من حكم كان يتآمر على خراب البلاد والعباد، وهذا بالطبع ليس صحيحًا؛ فكل نظام حاول، ولكن إمكانات البلد التي استنزفتها الحروب والمغامرات لم تمكن أيا منهم من تحقيق ما وعدوا به.
وأخيرًا جاء من يريد الإصلاح فعلا ونجح بامتياز في إقناع الشارع بأن المريض لن يشفى إذا حصل على الدواء بالتدريج، أو أن العمليات الجراحية لابد أن تتم على مراحل، وأن العلاج الوحيد الآن في جراحة كبرى.
غير أن المعضلة الكبرى أن المصريين سمعوا وعود الإصلاح كثيرًا، وانتظروا أن تسقط ثماره عليهم، ولكن صبرهم نفد؛ لأن الثمار لم تنضج في أي تجارب.
وقد حان الوقت لوعود حقيقية تعيد الثقة للناس في كلام الدولة؛ خاصة أن آخر خطوات برنامج الإصلاح شارفت على النهاية؛ بما يعني بدء تساقط ثماره على الناس، ثم إعادة النظر في المشروعات الكبرى التي استنزفت معظم موارد الدولة.
وحان الوقت لتكافؤ الفرص بين أقاليم مصر الجغرافية؛ لأن مصر ليست القاهرة والجيزة والإسكندرية؛ ولكنها آلاف القرى والمدن والمحافظات، ومعظمها في أمس الحاجة لمشروعات صغيرة في مياه الشرب، والصرف الصحي، والطرق، ومراكز الشباب، بعد أن تهالكت ولم تعد تفي بالحد الأدنى من متطلبات الحياة.
ولا يمكن إعادة بناء الإنسان بدون توسيع هامش الحرية والتعبير بالتعددية السياسية والحزبية والنقابية والطلابية، ذلك أن تلك المؤسسات هي التي تصنع التوازن، وتمنح الفرصة للمشاركة في صياغة الحياة، وهي فضلًا عن كونها نصًا دستوريًا؛ فإنها منحة إلهية فطرية للإنسان.
ولو شاء الله لجعل الناس كلهم أمة وملة واحدة، ولكن هذ الاختلاف والتدافع يمنع الفساد في الأرض بنص القرآن، ولا ينفصل عن ذلك خلق المنافسة المشروعة بين كل المؤسسات في البناء والمشاركة للقضاء على عمليات الاحتكار الرسمي وغير الرسمي، ومنع الاستثناءات في الفرص والحصانات الممنوحة بغير القانون لكثير من الفئات؛ لمجرد أنهم يقومون بأعمالهم؛ وهكذا يمكن تطبيق القاعدة التاريخية لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتلك هي البدايات الصحيحة.