لا يمكن أن تكون هذه هي روما.. أين سحرها المتوقع وعصافير تحضرها التي ينبغي أن تبني أعشاشها هنا على شجرة واحدة من أشهر عواصم الغرب؟
السؤال المؤجل الذي ألمحه يقترب في عيون هؤلاء الذين ألقت بهم صحارى الشرق العربي إلى واحة الموضة والجنون: موظف الاستقبال بالأكاديمية المصرية للفنون، عمال بمحلات البيتزارية، منتدبون للعمل بمنظمة "الفاو" ومساعد صاحب مطعم بيراميدي للأسماك بمنطقة فيوموتشينو، شمالي المدينة.
تفاجئهم قذارة الأرصفة والقمامة الهاربة من قبضة الصناديق الخضراء العملاقة بوسط البلد، وعلب البيرة التي يخلّفها وراءهم المراهقون بساحة بياتزا دي فيتوريو بعد عطلة نهاية الأسبوع .
الأمر جد مختلف بالنسبة لي، أنا المسافر من النقيض إلى النقيض. من حنان الفوضى إلى قسوة الانضباط، من حرارة الزحام إلى برودة العزلة، من انفجار الضجيج إلى صدمة الصمت، من شمس القاهرة إلى غيوم بروكسل.
كانت روما، على عكس هؤلاء، تمثل لي المحطة الانتقالية التي خطتها ببراعة يد الجغرافيا وأنفاس المتوسط؛ لتكون المنزلة بين المنزلتين، الدرجة المثالية بين الدرجتين، بين جنوب مثقل بالوجع جئت منه، وشمال يشف ويرف في نسيم الرفاهية حللت به.
وهنا لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في مارتينو.
تطلع إلى شمس خجلى تطل علينا بتردد ونحن بصحبة فاطيما، زوجته المغربية الملولة، وقال:
- لا أعرف كيف سأبقى في هذه المدينة الكئيبة عامًا كاملًا. الشمس عندنا في روما قوية تسطع معظم شهور السنة، أما هنا فيقولون إنك إذا كنت محظوظًا سطعت تسعين يومًا بالكاد!
كنت قد سبقته إلى بروكسل بما يقرب من عام وأصبحت، مقارنة به، خبيرًا بالمدينة يملك من التفاصيل ما يشد به آذان الوافدين الجدد.
- لا تقلق يا صديقي، فمصيرك هنا معلق بإنسان العصر، وهو لحسن الحظ أحمق، وبفضل حماقته تتسارع وتيرة الاحتباس الحراري على نحو غير مسبوق، وبشكل لم يعد تُجدي معه مناشدات إبراء الذمة التي تصدر عن سعادة الأمين العام للأمم المتحدة.
المدن الباردة مثل العاصمة البلجيكية تكتسب كل عام المزيد من الدفء، صحيح أن الجليد يذوب، ومدنًا بأكملها ستغرق، وأنهار آيسلندا بدأت بالفعل في الاختفاء، وكوكبنا الأزرق تتلاعب به شياطين الشركات العابرة للجنسيات، لكن يجب أن تبتهج فبروكسل خطت خطوتها الأولى على طريق المعجزات المناخية.
في ديسمبر الماضي سطعت تسعة أيام متواصلة للمرة الأولى في تاريخ الأصدقاء الذين قضوا هنا عشر سنوات فما فوق، ومر يناير دون ثلج باستثناء الأسبوع الأول، وحين عدت في مايو من إجازتي الأولى بالقاهرة، استقبلتني كما يليق بمعشوق غاب طويلاً ثلاثة أسابيع من النهارات المشمسة المضيئة.
لم أكذّب خبرًا واستغللت الفرصة لممارسة هواية الركض يوميًا حتى أتخلص من ثمانية كيلوجرامات زيادة بوزنى منحتني إياها سندوتشات "عبده...." و"مجدي...."