أمتع الأوقات هي التي أقضيها بين سواعد فتية مصرية في مزرعة أو في مصنع، وقد كان يوم الجمعة الماضي هو الأسعد على الإطلاق، لأنني، باختصار، عشت تجربة ميدانية، جمعت بين الاثنين، في دورة كاملة من الإنتاج والتصنيع الزراعي للتصدير، تمنيت من كل قلبي أن تنتشر مثيلاتها، وتفيض، بالخير والهناء والسعد لأهالينا في كل ربوع المحروسة.
في منتصف طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي، وبالتحديد قبالة محطة "الرست" بوادي النطرون، وبعد الاتجاه شرقًا، شاهدت ما يرقى إلى المعجزة والبعث الجديد لحلم تنموي، زراعي صناعي تصديري، طالما راود الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، ويتبناه الرئيس السيسي، للخروج بالرقعة الزراعية، من حدود حوض النيل الضيق إلى الصحراء الواسعة فيما سمي وقتها - ولا يزال- بمديرية التحرير.
على طول الطريق، المنشأ حديثًا بعمق 35 كيلو مترًا، إلى قرية الخرطوم بمركز بدر التابع للمديرية، ظهرت وانتشرت مشاريع زراعية عملاقة بعشرات آلاف الأفدنة من أشجار ومحاصيل: المانجو والبرتقال والليمون والموز والرمان والعنب والخوخ والفراولة والبطاطس.
كان جمال عبدالناصر يريدها للاكتفاء الذاتي متعدد الأغراض، ومع مرور السنين وتزايد الاحتياجات وتنوع الاهتمامات، باتت القيمة التصنيعية المضافة هي الأكثر إلحاحًا، لتعظيم العائد من النقد الأجنبي.
بشهادة الخبراء والمختصين، مصر وهبها الله تربة ومناخًا لا مثيل لهما في العالم لإنتاج مختلف أنواع الفاكهة والمحاصيل الزراعية، وإذا أضفنا إليهما توافر الأيدي العاملة المدربة، وعوامل الاستقرار السياسي والأمني، فإن الآفاق ستكون أوسع - بكل تأكيد- لدخول دائرة اقتصادية تنموية يتطلع إلى تحقيقها الجميع.
تتلخص المنظومة المراد لمصر دخولها بكل جدية - ولا مجال لإضاعة الوقت - في رغبة محلية ملحة لرفع مستويات المعيشة لقطاع عريض من المصريين، تتزامن هذه الرغبة مع تزايد احتياجات العالم من المنتجات الزراعية المصنعة، وبحث الأسواق الدولية الدائم عن مصادر آمنة وموثوق بها لتلبية هذه الاحتياجات، وقيامها بالدفع بتقنيات زراعية وتصنيعية حديثة للدول المهيئة للحاق بالمنظومة.
لمزيد من الإيضاح والتبسيط سوف أعطى 3 نماذج لتفريط المصريين في عائدات مادية مضاعفة من 3 محاصيل زراعية، والانتباه لتعظيم العائد من منتج زراعي آخر، وكيف يمكن - بجرة قلم - تحويل المعادلة من الخسارة إلى المكسب والخير الوفير باستخدام العقل وبتحديد الهدف والرؤية والإبداع والتخطيط السليم.
المثال الأول للخسارة خاص بمحصول البصل المصري، الذي لا مثيل له في العالم، وتتوق الأسواق الدولية إلى استيراده، وبالذات، نوعية "الفتيلة" لأسيوط وسوهاج، وتشير تقديرات إنتاج مصر منه سنويًا إلى بلوغها كميات تصل إلى 3 ملايين طن سنويًا، ونظرًا لعدم توافر الرؤية والاستثمارات الواجبة، لتجهيز المحصول بقيمة تصنيعية مضافة، لتلبية احتياجات الأسواق الخارجية، تضيع على مصر عائدات من تصديره، الخام، يمكن أن تصل إلى 6 أضعاف ما تتحصل عليه حاليًا.
المثال الثاني لمحصول الطماطم، الذي تحتل فيه مصر المرتبة الثالثة على مستوى العالم من حيث الإنتاج، وللعلم، فإن مصر هي البلد الوحيد التي تزرع فيه الطماطم ثلاث مرات سنويًا.
السؤال: ما هى القيمة التصنيعية المضافة التي يقوم بها المنتجون المصريون للطماطم؟ الإجابة: لا شيء!!
بل ولمزيد من خيبة الأمل بخسارة المصريين في الطماطم، يتم فقد نسبة قد تصل إلى 35% في أسوأ حالاتها في أعمال النقل والتشوين وسوء التخزين!!
الحسنة الوحيدة في هذا المجال تكمن في تجربة وطنية متواضعة ينظر إليها العالم بانبهار، بانتظار النتائج، وتتمثل في عمليات تجفيف للطماطم تحت شمس الأقصر.
المثال الثالث للخسارة يتمثل في محصول البطاطس المصري، الذي تتوالى الأخبار المؤسفة عن توقف وامتناع العديد من بلدان العالم عن استيراده لإصابته بأمراض كثيرة، في حين لو تم تشغيل " المخ" وإنفاق القليل من الاستثمارات لخلق قيمة تصنيعية مضافة للمحصول الخام من البطاطس المصرية، لحظيت المحروسة بنسبة أكبر من "بيزنس" البطاطس على مستوى العالم.
أُنهي المقال بهذا المشروع المثالي الناجح للتصنيع الزراعي الذي أتطلع - بصدق - لرؤية نماذج مماثلة ومتنوعة له بعشرات الآلاف، وقد سافرت خصيصًا إلى قرية "الخرطوم" في مديرية التحرير، بمحافظة البحيرة، لتتبع المراحل المتعددة لخط سير جني محصوله في الحقل، ثم نقله إلى مصنع لتجهيزه بقيمة تصنيعية مضافة في مصنع نموذجي حديث بمدينة 6 أكتوبر، وانتهاء بتحميله في حاوية مجمدة، في طريقه للتصدير إلى أهم وأرقى وأصعب أسواق العالم، في اليابان.
يبقى أن نعرف أن مصر تنتج هذا العام (2018) نحو 250 ألف طن من محصول الفراولة، على مساحة مزروعة تصل إلى نحو 10 آلاف فدان، واليابان تستورد حوالي 10 آلاف طن من الفراولة المصنعة بلا إضافات سنويًا، وفي خطوة مبهرة من الإنجاز، والتخطيط والترتيب والتجويد، استطاعت مصر أن تخطط لتلبية نحو 50% من احتياجات اليابان للفراولة، وذلك بتسويق 5 آلاف طن، ليحتل – بذلك – بند الفراولة المرتبة الأولى في قائمة الواردات اليابانية الزراعية المصنعة من مصر لهذا العام.
لعل تسويق الفراولة على هذا النحو المثير للإعجاب والتقدير والترحيب في اليابان، وفي غيرها من الأسواق، يكون فاتحة خير لدخول باقي منتجات المشاريع الزراعية العملاقة التي شاهدتها على طول الطريق إلى مديرية التحرير، وفي مقدمتها: المانجو والبرتقال والموز والعنب والخوخ والرمان والبطاطس، وغيرها.
[email protected]