Close ad

عندما تكون الجذور في الهواء..!

20-2-2018 | 00:07

لا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
وإن تعجب فعجب من الذين ظهروا مؤخرًا إلى الوجود، دولًا وشعوبًا، ويسطون على تاريخ غيرهم العريق، خاصة جيرانهم، ويلتصقون به بلا حياء أو خجل، مع أن وجودهم لا يتجاوز عقودًا معدودة من الزمن بعدد أصابع اليد الواحدة، إلا أنهم يتوهمون أنهم يؤصلون لأنفسهم على أنهم سكان ما قبل الميلاد بل ما قبل التاريخ بتاريخ..!!

ولا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
ما أصعب أن تكون بلا جذور.. أو أن تكون جذورك في الهواء.. وما أصعب التوهان في عصر الاستعارة..
مسكين ذلك الإنسان.. الذي يحلق في فضاء العصر، وليس بين أجنحته جناح تراثي.. ولا في قلبه نبضة أثرية.. ولا في دمه قطرة تاريخية.. ولا في عينيه عدسة حضارية..

مسكين ذلك الإنسان.. الذي يعيش في قلب العصر بلا غطاء تراثي.. فما أسرع ما يتعرض للاهتزاز، والابتزاز، حين تمضغه رياح العصر المتقلب، وتلفظه وهو لا يدري، مع أنه يتسلح بمعطياته، ويتحدث بمفرداته، ويتحاور مع تقنياته.. لكنه ساعة أن يتلفت حوله، وينظر إلى ذاته باحثًا عن جدار يستند إليه، لحظة أن تجور عليه التكنولوجيا والأيديولوجيا، يلقى نفسه وحيدًا في العراء غير مليم..

ولا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
حين تتدثر بعباءتك التاريخية، تكتسب المهابة والرحابة، وتكتسي بالإجابة والاستجابة..

حين تتلفح بوشاح حضارتك.. تزهو وترنو.. وتهفو إليك العصرنة لعلها منك تفيد، وتضيف إليها، وتضفي عليها من رحيق جذورك، وجدودك، وحدودك الجغرافية، وجغرافية حدودك البشرية، وبشريتك التي بشرت بها، وباشرت بها إنسانيتك في المعارف والفنون والآداب والعلوم، في مختلف التحولات والانعطافات، وتباين الفواصل والمراحل.

أنت بتراثك: إنسان عصري.. أنت بتراثك: كائن مودرن.. أنت بتراثك: ثري.. وثراؤك من معراجك إلى باطنك.. وثرياك من ثراك... وبقاؤك في فنائك في لملمة رموز ماضيك.. واستمراك مرهون باستقرارك.. وازدهارك في غدك الموصول بأمسك كلما عدت إليه خطوة تقدمت للغد خطوين.. حداثتك في أصالتك.. عصريتك في كلاسيكيتك.. تفتيت عقلك في استيعاب أسرار آثارك، ربما تعادل ـ معنويا ـ تفتيت الذرة.. قطعة من حجر مضمخة بطلاسم بانيها أو ناحتها أو صانعها، لا يستطيع الكمبيوتر أن يمتلك عُـشر ما فيها!

ولا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
التراث ليس كلمة ثقيلة ترادف الجمود، والتحجر، والعيش عالة على الجدود.. والاعتكاف في قبورهم.. والهروب إلى كهوفهم.
أنت متجذر؟ إذن أنت تنمو..!.. أنت أثري؟ إذن أنت عصـري..!.. أنت عصري؟.. حسنا.. هل لك تاريخ.. حضارة.. تراث.. أجداد.. أسلاف.. فكر.. ثقافة.. عقيدة.. جغرافيا.. فلسفة؟

ولا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
إذن نتفق ـ بعيدًا عن نظرية المؤامرة ـ على أن كثيرًا من المستشرقين المغرضين مارسوا لعبة تفريغي ـ كإنسان عربي قومي ـ من الماضي.. جاسوا خلال الديار لترهيبي من سطوة التراث.. عاثوا في حاضري لترغيبي في الحداثة.. أفقدوني التوازن بيني وبين جدي.. بيني وبين أبي.. ثم ابني من بعدي..

تولوا أمري الفكري والحضاري في غفلة من الزمن، في وحلة من وحلاتي أو وحلاته.. علبوا تراثي.. ومزقوه.. وقسموه إربًا إربًا..
اخترعوا أكذوبة تقسيم التاريخ إلى عصر جاهلي.. وآخر إسلامي.. ثم أموي وعباسي.. ثم عصر الدويلات والإمارات.. ثم العصر العثماني.. ثم الحديث.. ترى.. ماذا بعد الحديث؟! إنها لعبة العولمة وتسويق الشرق أوسطية.. واعتباري شرطيًا لتمريرها.. أليس كذلك ؟!

ولا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
فسروا تاريخي حسب أهوائهم.. ونوازعهم.. أغراضهم.. ومصالحهم.. وأمزجتهم.. وحسب المؤسسات التي يعملون لحسابها.. وكل الحسابات تلغي رصيدي الحضاري!

قرأوني وكتبوني.. وسطروني وسيطروا علي.. شطروني.. نثروني شظايا باردة.. ألقوني إلى بعضهم بعضًا.. جعلوني حقل تجارب.. وصيروني مادة لمعاملهم وأبحاثهم وتجاربهم.. وتوهموا أنهم شكلوني ورسموني.. وقضي الأمر!!

ولحظة أن سقط القناع.. لحظة أن بدأ وجهي يلفظ الأقنعة.. وبدأت أعثر على ذاتي حين بدأت مشروع النهضة العربية.. قبل مائة عام.. بدأ التقلص.. ثم التخلص من القبضة الاستشراقية والسطوة الاستعمارية البغيضة.. ورحت أستقل بطاقاتي.. وأستغل قدراتي.. وعاد إليَّ الوعي الذي غاب أو (غيبوه) طويلا.. طويلا.. وصار (النهوض) عنوانًا رئيسيًا في كتاب كل دولة من دولي العربية.. داخل منظومة وطني حبيبي الوطن الأكبر.. لكنهم كانوا لي بالمرصاد.. إلا قليلا!

ولا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
تلاعبوا ببعضنا، وجرفوهم إلى طوفانهم.. وفي نفس الوقت استداروا إلى الفئة الأخرى وسجنوهم في الماضي بما له وما عليه.. وكانت المفاجآت في فئة ثالثة حققت التوازن، واختارت طريقًا هو الذي نسير فيه الآن - أو يفترض ذلك - لا أحبس نفسي في غرفة القديم، ولا أهرول في شارع العصر الحديث.. أتقدم إلى العالم ولي جداري الحضاري الذي أستند إليه.. أقدم نفسي وأنا واثق الخطوة، لا أمشي ملكًا، ولكن بشرًا سويًا، إنسان أعي دوري وأمارس وعيي..

ولا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
لكن.. بعضنا يحتاج بين الحين والحين إلى من يوقظ فيه الشعور بالذات في عصر يعز فيه العثور على الذات.. والتقابل مع الذات.. والتعامل مع الذات.. والتصالح مع الذات..

غير أننا لا نعدم الأمل في النور الذي يضيء الطريق وإن توارى خلف الأستار بعضًا من الوقت، ويفتح النوافذ التي غُـلقت حتى عُـلِّقت، ويفتح المنافذ التي جثمت عليها خفافيش الظلام، ويجعل من (الأمس الأصيل) قوة لاحتواء (اليوم) والتحريض على اقتحام (الغد) دون انتظاره حتى يجيء.. وقد لا يجيء!

ولا عزاء لمن لا تاريخ له...!!
لا عزاء لمن لا تاريخ له...!!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة