تحتضن مريم الصغيرة بقايا عروستها، وتتأمل والدها من بعيد وهو يرفع الألواح الخشبية، وسعف النخيل، ليبني سقفاً فوق أنقاض جدران من الحجارة، وأخواها باسم ذو الخمسة أعوام، وربيع الشقيق الأكبر، وعمره أحد عشر عاماً، يعاونان أباهما في البناء، والأم أمام حطام منزلهما الجديد توقد النار على ما تبقى من طعام أمس، وفي لحظة يدق قلب مريم دقات متسارعة، يكاد أن ينخلع من صدرها على إثر سقوط قذيفة تتطاير بها أجساد أسرتها أمام عينيها، وتقع عروستها من بين يديها، وتهرول نحو أنقاض البيت، وتصرخ قائلةً وسط الغبار، لن أراهم مرة ثانية مثل خالتي وعمتي وأولادهما، وإذا برجلٍ يمد إليها عروستها المحطمة، ويذهب بها بعيداً ليجلسها وسط عدد من الأطفال، يشاركونها الألم ونظرة يأس نحو مصير مجهول.
وأنت تشاهد هذا الواقع المرير لهؤلاء الصغار، تظن أن باستطاعتهم عودة الروح من جديد لبلدهم الميت، وهم بداخلهم يتساءلون بأي ذنبٍ قتل أمهاتنا وذوونا؟ وبأي ذنبٍ نشرد وتوأد ضحكاتنا؟ ولماذا الجميع أتي من شتى بقاع الأرض ليسرق أرضنا، ويبيع أجسادنا في أسواق النخاسة؟
وأمتنا العربية هي الوحيدة التي تمتلك الإجابة عن هذه الأسئلة، ولا يحق لها أن يجيب غيرها عليها، فقد يطيل أملها في انتظار يقظة الضمير العالمي من سباته، فالغرب منذ عدة سنوات يعقد المؤتمر تلو المؤتمر، ثم يبعث أحدهم بطائراته ليلقي بالبارود، ولا يفرق بين طفل ولا شيخ، وآخر يرسل بجنوده ليحافظ على مصالحه، ولتذهب الشعوب إلى الجحيم، ووسط هذه المهاترات تصرخ منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، إن مستقبل ملايين الأطفال ممن ظلوا على قيد الحياة بات معلقاً في الهواء.
وأشارت المنظمة إلى إصابة هؤلاء الأطفال بأمراض نفسية عصية، كالرعب من النوم، حتى لا يستيقظون على أصوات قذائف الطائرات والرصاص، فضلاً عن تعرضهم للاكتئاب والتوتر، والعجيب أن عالمنا العربي احتفل منذ شهور قليلة بيوم الطفولة العالمي مع احتفالات الدول الغربية، التي تحرص وتخطط بصفة مستمرة لتطوير نظم الرعاية والتعليم لأطفالها منذ ولادتهم، لأن الإحصائيات لديهم أكدت، أن كل دولار تستثمره مثلا "أمريكا" في رعاية الطفولة، يعود عليها بعائد يصل إلي 11 دولاراً في المستقبل، أما في الاتحاد الأوروبي، فاستثمار يورو يعود عليه بفائدة 7 يورو.
ولذا تمنح "السويد" مرتباً شهرياً لكل طفل حتى بلوغه الـ16 عاماً، وفي "الدنمارك" يتقاضى الآباء والأمهات الذين يعتنون بأطفالهم رواتب تصل إلى 2200 يورو سنوياً للطفل الواحد، وفي "ألمانيا" يخصص 215 يورو شهرياً لكل طفل.
ووطننا العربي لديه القدرات والآليات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تؤهله لفرض الاستقرار على شعوب تلك الدول، وإنقاذ أطفالهم من الانهيار والتسول على موائد الغرب، ومحاولة احتواء جيل كامل من أن يتحول إلى قنبلة تنفجر داخل المجتمع العربي بكامله، وتزيد على كاهله أعباء مواجهة "داعش" وأخواتها، ويدور في دائرةٍ مفرغة من الإرهاب، على يد جيل تربى وعيونه لم تر إلا الدماء والأشلاء والخراب، جيل فقد الحنان والنصيحة المخلصة، جيل يبحث عن طعامه من بقايا القمامة، ويأكل من خشاش الأرض، ومع أول من يلقي إليه الدرهم أو الدولار سيرتمي في أحضانه، وإن كانت رغبته سلب عرضه وأرضه ودينه، فهذا "نتينياهو" يشمت بعد مذابح "حلب" العام الماضي بالأسلحة الكيماوية، ويخرج على التلفاز الإسرائيلي، ويتعاطف مع أطفال "سوريا"، ويرحب باستضافة البعض منهم.
وأثبتت التجربة مع مرور العقود، فشل استجداء الغرب في حل مشكلاتنا، والنتيجة غالباً بعد طول انتظار، تفاقم في الأزمة، وسقوط المزيد من الضحايا، وانسحاب آثارها السلبية على الأمة بأسرها.