وصل الإسعاف في مصر إلى وضعية جيدة، برغم أن مجال العمل هو نقل قتلى، وإسعاف مصابين في الحوادث والثورات والعمليات الإرهابية، فضلاً عن مرضى في حالة متأخرة، أو مصابين في حوادث منزلية، هؤلاء هم زبائن الإسعاف قديمًا وحديثًا.
ولم تعد سيرة الإسعاف مرتبطة بالوصول المتأخر، أو رفض نقل حالات، ووفاة المريض أو المصاب أولاً قبل أن تجيء سيارة الإسعاف.
هذه شكاوى من الماضي، ربما القريب، ولكن الآن الوضع مختلف.
فسيارات الإسعاف هي التي وصلت أولاً إلى محيط قرية الروضة في بئر العبد، وأطلق عليها الإرهابيون النار، ولم تكن فكرة المسعفين قطعًا أنهم ذاهبون في نزهة، ولكنهم اندفعوا في سيارات يصل عددها ما بين 25 إلى 30 سيارة، وقاموا بمناورة للوصول إلى هناك، لتفادي النيران.
لا أعرف من الذي أبلغ الإسعاف بما يجري في مسجد القرية، وكيف تم التعامل مع البلاغ، وهل في نظام عمل الإسعاف أن تقوم بإبلاغ الشرطة لحظة تلقيها البلاغ، ولحظة تحركها إلى المكان المقصود، وكان هناك اثنان من المسعفين بين المصلين، أحدهما قُتل، والآخر أصيب.
ووقائع الحادث الإرهابي تفصح عن أن الإرهابيين لم يهدفوا أبدًا إلى ترك أحياء أو مصابين، وأنهم مروا بأحذيتهم فوق المصلين الشهداء ليتثبتوا من الموت، وقال شهود عيان فيما بعد، إنهم ما إن يشعروا بأن أحدًا على قيد الحياة، فإنهم يقتلونه فورًا.. برغم ذلك فإنهم غادروا المسجد، وفي نفس بعضهم غصة من أن يكون أحد من المصلين حيًا، وتجسد لهم هذا الظن، في رؤية سيارات الإسعاف قادمة، فاستهدفوها بإطلاق النار، حتى لا تصل إلا متأخرة، ويكون قد مات آخر المصابين، فلا تسعف أحدًا.
لم أكن أسمع عن بطولات للإسعاف، وإنما عن عجز بالغ، وشوارع خانقة، وسيارات متهالكة، ووصول للمصاب بعد فوات الأوان.. إلى أن قامت ثورة 25 يناير، ومع ساعاتها الأولى، كان الإسعاف الثوري هو السائد، أطباء من الثوار أنفسهم، ومتطوعون منهم أيضًا، يسعفون الشباب المصاب، وقد رأيت ذلك في ميدان التحرير في اليوم الأول، وزاد الأمر إلى مستشفى ميداني خلفي، لكن الإسعاف بدأت تظهر في الصورة، هي الجزء الوحيد من الحكومة غير المرفوض، والذي لم يستطع أحد التشكيك فيه، وأصبح معتادًا أن نرى سيارات إسعاف مندفعة تشق طريقها بين القنابل المسيلة للدموع والحجارة، لنقل المصابين إلى قصر العيني، وإلى غيره من المستشفيات القريبة من مواقع الأحداث.
واستمر الحال مع تطور لافت في الجمع الثورية المليونية والألفية، وحتى الأقل من ذلك في القاهرة والمحافظات، وصولاً إلى ثورة 30 يونيو، وما تلاها من أحداث، حتى رحمنا الله من الجمع والوقفات والانفلات الأمني.
ومع اختبارات وتجارب شخصية وعائلية لمرفق الإسعاف، فإن الأمر بدا لافتًا للنظر بصورة أشمل، فنحن أمام مرفق إسعاف يتقدم ويقدم خدمات كثيرة وملموسة بتكلفة مالية معقولة، وأمام مرفق يضم 3200 سيارة حديثة، ومجهز بأنظمة اتصالات متقدمة.
وبرغم انتقادات أبو حفيظة للإسعاف في برنامجه قبل عامين، فإن الحوار الجاري في تلك الحلقة كوميدي، والنقد الساخر فيها مشروع عن مسعف كسول يتلكأ في أخذ البلاغ، ويدقق في اسم المتصل ومشاهدي الحادث، ثم يطلب لمزيد من التأكد، التحدث مع المصاب نفسه.
وسمعت أخيرًا أن هيئة الإسعاف بدأت خطوات أولى لعمل متحف، أرجو أن تنجزه، لنعرف كيف أصبح لدينا كيان بهذا الحجم، والمتحف ليس فقط تسجيلاً أمينًا للتاريخ، وإنما دافع لحاضر ينبغي أن نحافظ عليه.
"إسعاف القاهرة" كانت جمعية أهلية قبل أن تُضم لوزارة الصحة في الستينيات، والمسعفون كانوا متطوعين، وباب التطوع مفتوح لجميع فئات المجتمع، وكنت تجد مثلًا في الفرقة 13 الطبيب والصحفي والمهندس وضابط الشرطة.. أشخاص اقتنعوا بشعار الإسعاف: "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط"، وعند وقوع أي حادث كبير أو صغير، تجد رجل الإسعاف بملابسه (الكاكي) والكاب (الأحمر) في أول المتقدمين لإنقاذ المصابين والجرحى، وكانوا شهودًا في الأربعينيات والخمسينيات على جرائم جماعة الإخوان المسلمين، عندما كانوا يقتلون الشعب المصري بالطرود المفخخة في دور العرض السينمائي والمحلات التجارية الكبرى.
والإسعاف هي رائدة الطب الرياضي في مصر، وخصصت سيارة إسعاف وفريق مسعفين لمباريات كرة القدم، وأصبح رجال الإسعاف وجوهًا مألوفة للجماهير في المدرجات، كما في السينما؛ ففي فيلم (قلبي دليلي) استعان أنور وجدي مخرج الفيلم وبطله بطاقم حقيقي من رجال الإسعاف ليشاركوا ليلى مراد أغنية جمع التبرعات في القطار "ادفع.. ادفع" توفيرًا لنفقات تفصيل ملابس لممثلين مساعدين، وأيضًا حتى يضمن إتقانهم لأداء المشهد.
وإذا كانت الإسعاف هي من نقلت مؤسس الإخوان حسن البنا إلى قصر العيني بعد تعرضه للرصاص أمام جمعية الشبان المسلمين في شارع رمسيس.. فإنها حملت رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا لبيته بعد اغتياله برصاص عضو الجماعة، بينما استعان وزير الداخلية أحمد رشدي بسيارات الإسعاف في حركة تمويه، عندما أراد اقتحام الباطنية لتنظيفها من تجارة المخدرات.