من السبق الحضاري إلى التحاف العزلة والاحتكاك
- التساؤل الأساسي لهذا الفصل هو: هل العزلة ملمح أساسي في شخصية مصر وتاريخها؟! وهل مصر عالم كامل قائم بذاته ومستغرق فيها؟ وهل هناك تعارض بين موقع مصر وهو موقع القلب من الجسم بالنسبة للعالم أو العاصمة من الدولة؟! فمصر هي حجر الزاوية، وهي مجمع القارات ومفرق البحار وملتقى الشرق والغرب.. فهل هذا الموقع يتعارض مع الموضع الثري وتحيط به الصحراء من كل جانب؟!
قد يبدو أن هناك تعارضًا، ولكنه في الحقيقة تعارض سطحي؛ لأن عزلة مصر لم تمنع مصر عبر التاريخ من علاقات قوية ودائمة مع المحيطين، فالصحراء المحيطة بالوادي كانت عزلة حماية، نمت في المصريين الشعور بالذات، فمصر تكاد تنفرد بين الدول بأنها تجمع في تناسب نادر قدرًا من عزلة في غير تقوقع، وبين قدر من الاحتكاك لا يصل لحد التميع، وبهذه المعادلة الدقيقة تحتفظ مصر بشخصية قوية متميزة عبر العصور.
- إذا عدنا للتاريخ في مراحل الحضارة المبكرة وصعوبة المواصلات والاتصالات نمت هذه العزلة الجغرافية الشعور بالذات لدى المصريين القدماء؛ ومثل هذه النظرة عرفتها شعوب أخرى في نفس الوقت، ولكنها لم تتحول قط في مصر إلى عنصرية أو كراهية للأجانب، لأن مصر لا تملك أن تنعزل أبدًا عن تيارات التاريخ والحضارة؛ لأنها في قلب الدنيا وعلى ناصية كل التيارات التاريخية والحضارية والثقافية، كما أن وعي مصر بنفسها سرعان ما تضاءل مع التاريخ وتطور المواصلات والاتصالات، ولذلك أخذت مصر محاسن العزلة والاحتكاك معًا، ومن هنا حيويتها التاريخية وبقاؤها، وهذا مفتاح جوهري لشخصية مصر، مع ملاحظة أن قضية العزلة الجغرافية موجودة في معظم البلاد العربية، بل هناك دول أكثر عزلة جغرافيًا من مصر فهي ليست صفة مصرية.
- السبق الحضاري.. كانت حضارة مصر الزراعية الراقية مع بداية عصر الأسرات (3200 ق.م)، حيث حدث تغير جوهري في المناخ، حيث بدأ عصر الجفاف بالتدريج إلى أن سادت الظروف الصحراوية التي أجبرت الإنسان والحيوان على التجمع في الأودية التي تحسنت ظروفها بصرف المستنقعات واختفاء الأدغال، وكان النيل والرافدان أهم تلك الأودية، وفي هذه البيئة لم يكن هناك مجال لحرف الصيد بل لزم الاعتماد على جمع النباتات البرية، ثم تقليد الطبيعة بزرعها فكان اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوان، وبدأت بذلك الثورة الزراعية ومعها بدء العصر الحجري الحديث، وبعد ذلك بدأت عمليات ضبط النهر وزراعة الحبوب والألياف والاستقرار في القرى والمدن والنقل والتجارة وصناعة النسيج والفخار، وما صاحب ذلك من فنون الري والعمارة والملاحة والنقل والحساب والطب والكمياء.
(ملحوظة كلمة كمياء مشتقة أصلا من اسم موطنها مصر كيمي)، وهناك جدل بين العلماء حول أصل الحضارة هل مصر أم العراق أم كلاهما، وأغلب الآراء ترجح مصر، والذي لا شك فيه أن الزراعة لم تكن ولدت في تربة النيل، فإن مصر بأي مقياس في مقدمة البلاد الرائدة في تأصيل الثورة الزراعية وإقامة أسس حضارة العصور القديمة مع بداية عصر الأسرات، فالسبق الحضاري أذن سمة أصيلة من سمات شخصية مصر التاريخية، وفي ضوء ذلك يمكن تقسيم مراحل تاريخ مصر الحضاري إلى أربع مراحل هي:
مرحلة صناعة الحضارة (بحكم الموضع)
حيث كان النهر والفيضان والعزلة البيئية الحامية هذه العوامل تفاعلت وأدت لظهور وتطور الزراعة ومعها الحضارة الفرعونية الراقية، التي بهرت الشعوب المجاورة بمرحلة تصدير الحضارة (بحكم الموقع)، خرجتا مصر من النهر إلى البحار بحثًا عن بعض الخامات التي لا تتوافر في البيئة المحلية كالأخشاب؛ مما دفعها إلى الملاحة البحرية والتجارة البعيدة، فأصبحت مصر مصنع ومتجر للحضارة بداية من الشام وفينقيا إلى كريت واليونان وليبيا والصومال، وفي مصر ظهرت إرهاصات التوحيد (إخناتون) على مستوى العالم.
وأيضًا في هذه المرحلة لم تتوان مصر عن الاستعارة من الحضارات الأخرى، فقد أخذت على سبيل المثال الخيل والعجلة من الهكسوس، كما دخل الجاموس والإبل مصر في العصور الرومانية والعربية، ويمكن اعتبار العصر الإسلامي امتداد المرحلة تصدير الحضارة؛ حيث إن الحضارة الإسلامية هي نتائج تفاعل الحضارة المصرية والعربية، فمصر القبطية تأثرت بالعقيدة المسيحية وحولتها مصر إلى قبطية بشكل جديد، وأدخلت الدير والغناء الديني والموسيقي الكنائسية المستمدة من الفرعونية، ثم جاء الإسلام لمصر وأدخلت مصر التصوف الإسلامي، وأقامت الأزهر الذي يعلم العالم كله الإسلام، وبرغم دخول الفاطميين ونشر المذهب الشيعي لكن مصر ملكة الحد الأوسط، لم تعرف التطرف لا في المسيحية ولا في الإسلام، وهذه الوسطية في الفكر والدين سمة مصر دائما، وكذلك كانت مصر دائما خلية حضارية قوية في قلب العالم الإسلامي.
مرحلة العزلة والاكتفاء الذاتي (بحكم الموضع)
وفيها اعتمدت مصر على ماضيها وعلى الاستهلاك المحلي واجترار التراث دون إضافة أو تجديد وانتهت إلى عزلة وتأخر..
مرحلة استيراد الحضارة .. بحكم الموقع
حيث انتقلت الحضارة إلى الغرب مع تقدم وسائل المواصلات، وبرغم ذلك لم تخل هذه المرحلة من عملية التبادل الحضاري، فلم تتحول مصر من نافورة حضارة إلى بالوعة حضارة، ولكنها تحولت إلى بوتقة تصهر الحضارة الجديدة بالقديمة، ثم تشكيلها بما يتفق وشخصية مصر وهذه المرحلة تنقسم داخليًا لثلاث مراحل؛ الأولى هي الانبهار الحضاري بالغرب، وكان رد الفعل مركب نقص بمعنى أدى إلى التهافت على الحضارة الغربية ونقلها بلا تميز فكانت محاولة تحويل مصر لقطعة من أوروبا ووصل الأمر لانتشار المسميات الأجنبية، ثم كانت المرحلة الثانية رد فعل عكسي تمثل التطرف، وظهرت الأفكار السلفية والمتطرفة دينيًا، حيث تحول مركب النقص إلى مركب عظمه يتمسك بالماضي البعيد خوفًا من الانهيار، ثم جاءت المرحلة الثالثة مع يوليو، وهي مرحلة الاستعارة الرشيدة والتوازن النفسي، والواقع أنه ليس في ماضينا ما نتبرأ منه ولا في حاضرنا؛ مما نخجل منه والحساب النهائي أن مصر أعطت البشرية على مدى تاريخها أكثر مما أخدت.
- ضوابط السبق والتخلف.. إن قانون توينبي عن التحدي والاستجابة يفسر أسباب التقدم، حيث يرى توينبي أن التحدي الأول الذي واجه المصريين هو أزمة عصر الجفاف الذي هدد بقاء المصريين، وألهب مخيلتهم الإبداعية من أجل البقاء فكان بمثابة التحدي الكبير الذي استجاب له المصريون باكتشاف الزراعة، وقيام الحضارة اعتمادًا على النيل وإبداع المصريين.
- ملكة الحد الأوسط؛ فهي المفتاح والدليل في الشخصية المصرية فهي وسط بين الماضي والحاضر بين المحلية والعالمية بين الأصالة والمعاصرة بين التراث والاقتباس، وهي عبقرية الحل الوسط، ما يؤكد قوة وصلابة الشخصية المصرية عبر التاريخ.
تعليق كاتب المقال
1- خلاصة هذا الفصل أن لمصر شخصية مستقلة تمثل الوسطية في أفضل صورها وهي حقيقة يمثلها الأزهر الشريف كمثال واضح للشخصية المصرية، وأنه حتى في الفترات التي تراجعت مصر عن مرحلة صنع الحضارة كانت مصر فاعلة ومؤثرة في محيطها العربي والإسلامي، فمصر برغم كل الظروف والحروب التي خاضتها هي التي أنشأت أول محطة للقرآن الكريم في العالم في الستينيات، وفي هذه المرحلة أيضًا أول من طبع المصحف الكريم في شرائط، بحيث أصبح ممكنًا سماعه في أي وقت وأي مكان على مستوى العالم، أو أول مجمع بحوث إسلامية ينشأ في الستينيات، وجند مصر هم الذين انتصروا على التتار والصليبيين وغيرهم، فهذه هي مصر التي تعطي دائمًا حتى في أصعب الأوقات والظروف.
2- هذا الفصل يؤكد المعادلة الذهبية لحمدان، والتي تقول كلما زادت قوة الموضع عن الموقع كانت مرحلة الإمبراطورية، وكلما ضعفت قوة الموضع عن الموقع كانت مرحلة المستعمرة، وهذا يرتبط بهذا الفصل، حيث إن مرحلة العزلة تكون هي مرحلة المستعمرة، ومرحلة الاحتكاك والخروج لخارج مصر هي مرحلة الإمبراطورية، وهكذا تتكامل فصول هذا العمل الموسوعي وتتساند وتؤيد بعضها بعضًا، رحم الله عالمنا الكبير "جمال حمدان".
كاتب المقال:
أستاذ علم الاجتماع البيئي ـ جامعة عين شمس
[email protected]