شأنه شأن أي قرار في الحياة، كان لقرار تعويم الجنيه المصري وتحريره مقابل العملات الأخرى في نوفمبر من العام الماضي، سلبياته وإيجابياته التي جاءت طبيعية نتيجة لهذا القرار المرعب الذي أحجمت حكومات وأنظمة عديدة عن مواجهته خوفًا من تبعاته.
الخوف جاء بعدما حدث في عهد الرئيس السادات الذي حقق شعبية جارفة بعد نصر أكتوبر، ومع ذلك عندما قرر تصحيح هيكل الاقتصاد المتهالك ورفع الدعم جزئيا عن بعض السلع والخدمات، هاجت الدنيا وماجت وخرج المحتجون فيما أسموه بالانتفاضة الشعبية، والتي أسماها السادات وقتها "انتفاضة حرامية" بعد أن استغلها المعارضون لحكمه، في محاولة تقليب الشارع عليه.
وبالرغم من ذلك تحمل الرئيس السيسي بشجاعة كبيرة مسئوليته التاريخية لإصلاح هيكل الاقتصاد، وأصدر قرار تعويم الجنيه مستندًا إلى شعبيته لدى الشارع المصري، وارتفاع درجة الوعي لدى المصريين، وما اتخذته الحكومة من إجراءات مسبقة للحد من تبعات القرار على ذوي الدخول المنخفضة والمحدودة، بزيادة دعم سلع بطاقات التموين وزيادة معاشات الطبقات الفقيرة، وإنشاء معاشات جديدة مثل تكافل وكرامة للمحتاجين من تلك الطبقات.
لكن وسط ذلك جاء البعض لينتهزوا تلك الظروف الاستثنائية القاسية على كل المجتمع المصرى – وإن كانت بنسب مختلفة – وحققوا مكاسب كبيرة من تحرير سعر الصرف، بعد أن تضاعف سعر صرف الدولار من 8 جنيهات و88 قرشًا إلى نحو 18 جنيهًا، وتوقع بعض من يسمون أنفسهم "خبراء" وقتها أن يصل سعر الدولار إلى 25 جنيهًا قبل نهاية العام، واستغل المحتكرون وبعض المستوردين والتجار ومقدمو الخدمات تلك الظروف ليضاعفوا أرباحهم على حساب المستهلكين الذين لم يعد لهم حول ولا قوة.
وكان الغريب أن يستغل بعض الهيئات التى لا تستهدف الربح بحكم طبيعة عملها هذا الظرف لتحقيق مكاسب أيضًا ومنها المنشـآت التعليمية، وعلى رأسهم "الجامعة الأمريكية" التي كنا نتصور أنها بما لديها من خبراء وأساتذة في الاقتصاد سوف تساند هذا القرار لإصلاح هيكل الاقتصاد المصري.
بالطبع تأثرت الجامعة شأنها شأن كل الأفراد والمؤسسات على أرض مصر بهذا القرار؛ نتيجة لارتفاع أسعار السلع والخدمات، والذي جاء نتيجة حزمة من القرارات، منها رفع أسعار الوقود والكهرباء، وفرض ضريبة القيمة المضافة على كثير من السلع، ونتج عن ذلك ارتفاع نسب التضخم من 14% إلى 33%.
ويكون من المقبول أن ترتفع تكاليف الخدمة التعليمية بحد أقصى بنفس نسبة التضخم، وليس إلى الضعف، خاصة أن تكاليف الخدمة لا تعتمد على الدولار في مؤسسة هي في الأصل لا تستهدف الربح، وكل مصروفاتها تقريبًا بالجنيه المصري من مرتبات للعاملين وأعضاء هيئة التدريس والمحاضرين، بعد أن أصبح 80% منهم من المصريين و20% فقط من الأجانب، وكذلك الكهرباء والوقود وأعمال الصيانة، كما أن الجامعة مثل باقي المنشآت التعليمية تحصل على دعم غير مباشر من خلال تخصيص أراض للبناء وتكاليف البنية الأساسية التي تتحملها الدولة، في سبيل تقديم خدمة تعليمية جيدة لأبناء المصريين.
قرار الجامعة برفع الرسوم من 80 ألف جنيه للعام الدراسي إلى نحو 150 ألف جنيه في المتوسط؛ تبعًا لنوع الدراسة العملية أو النظرية، أوقع كثيرًا من أولياء الأمور في ارتباك شديد بعد أن وصل بعضهم إلى حد العجز عن استكمال مشوار تعليم أبنائه؛ لعدم قدرتهم على مواجهة الزيادة، وصعوبة تحويل أبنائهم إلى جامعات أخرى لاختلاف المناهج التعليمية، وبعضهم من الطبقات المتوسطة الذين قرروا حرمان أنفسهم من بدائل كثيرة، أو بيع قطعة أرض ورثها عن أجداده، لتوفير فرصة تعليم جيدة لأبنائهم، على أمل أن يجد فرصة عمل بعد تخرجه تعوض أهله عن الأعباء التي تحملوها.
قرار تحرير سعر الصرف الذي مر عليه عام كامل وحقق كثيرًا من الإيجابيات، ولا تزال إيجابياته تتفاعل لإصلاح ما أفسده الخلل في تقديم الدعم للسلع المستوردة، ودعم المنتج الأجنبي على حساب الصناعة المصرية، حقق أيضًا نتائج ظهر بعضها سريعًا، ومنها إيقاف عجلة الزيادة المتسارعة في أسعار العملات الأجنبية، وتقلص العجز في الميزان التجاري مع دول العالم؛ نتيجة لانخفاض حجم الواردات بنسبة 21%، وزيادة الصادرات بنسبة تزيد على 10%، بعد أن أصبحت أسعارها قادرة على مواجهة المنافسة الخارجية، وارتفعت تحويلات العاملين؛ نتيجة للقضاء على السوق السوداء في تجارة العملة، وارتفعت الاستثمارات المباشرة الأجنبية لإنشاء مشروعات جديدة، والاستثمارات غير المباشرة في البورصة المصرية لشراء أوراق مالية، وصلت إلى 18 ضعف ما كان قبل تحرير سعر الصرف، وارتفع الاحتياطي من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي إلى ما يزيد على 36 مليار دولار.
ولكن وسط تلك الإيجابيات يأتي من يعكر صفو الإنجازات، ويستغل الظروف؛ لتحقيق مكاسب لا يستحقها وبدون جهد.