Close ad

ثقافة الأمل.. "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ"!

20-10-2017 | 00:02

صدق من قال إن أجمل وأروع هندسة في العالم أن تبني جسرًا من الأمل على نهرٍ من اليأس، والمهم أن تعبره بثبات وقناعة تامة بقوته النابعة من صميم الروح، ولكن القناعة المعنوية ـ بالضرورة ـ لن تكفي لاجتيازه للعبور إلى شاطئ الأمان والطمأنينة، فلابد من أن يواكبها العديد من الخطوات الإيجابية الفعالة؛ وبحسب ظروف ومقتضيات الحالة الراهنة التي وصَلت إليها حالتك النفسية والجسدية والروحية؛ ويتأتى هذا الشعور بتثبيت ركائز وأعمدة قوية لبنيان صرح "ثقافة الأمل" الذي لا يتزعزع في داخلك.

وقتئذٍ ستسير واثق الخطى؛ غير عابئ برياح اليأس التي تهب عليك بين الحين والحين لتثبيط الهمة؛ أو خلخلة أعمدة هذا البنيان في أعماقك.

والمواجهة الحتمية تكون أجدر وأشمل بالتفاؤل القوي وقناعاتك الواثقة باجتياز ومجابهة كل الصعاب والحواجز؛ دون تذمُّر أو امتعاض، والتفاؤل يُعد بمثابة المعادل الموضوعي للأمل أو الصبر؛ فالتذمُّر والقنوط يجعلانك ترى أن للورود أشواكًا؛ على عكس المتفائل فإنه يرى أن فوق الشوك ورودًا مزهرة، والبون شاسع بين هذا وذاك.

وصحيح أن الضغوط الحياتية وضآلة الإمكانات أو عدمها؛ تضرب بمعول الإحباط في جدران النفس البشرية؛ لتصيبها بالشروخ والتصدعات التي قد لا تُجبر أو تلتئم على المدى القصير أو الطويل؛ ولكن العزائم لا تخور أو تهن؛ إذا تسلح الإنسان بثقافة الصمود والأمل؛ واتخاذه الصعوبات كمنصات للانطلاق نحو الأمام؛ دون النظر إلى الماضي الذي كان واندثر، مع ضرورة الوقوف مع النفس لدراسة كافة العوامل التي أدت إلى الإخفاق والفشل؛ حتى يتلافى التعثر فيها مرة أخرى، فالفلاح ـ بالفطرة ـ ينثر البذور في أعماق الطين وينتظر على أمل الحصاد وجني الثمار؛ فإذا ما أصيبت زراعته بالتلف نتيجة أمراض الأرض والبيئة، فإنه لا يتوقف عن معاودة الزراعة مرة أخرى بعد أن يحاول الوقوف على أسباب الفشل في المرة السابقة؛ ويدرس مجددًا تركيبة التربة ونقاء البذور ومصادر المياه وكفايتها لزراعته؛ وبهذه المثابرة يجني أجود الثمار؛ لأن قطار الحياة لن يتوقف وسيدهس في طريقه كل من يتقاعس عن اعتناق فلسفة الأمل وثقافته.

وهذه الثقافة لا تجيء مصادفة أو بضربات الحظ، وإنما تحتاج إلى تدريب شاق للنفس لاكتسابها وتقويتها عند كل منعطف ٍ وعر في حياة الإنسان؛ والإيمان المطلق بأن الإحباط واليأس ينبعان من داخلنا؛ ولماذا نبتئس ونيأس، والله جل شأنه خلقنا على الفطرة السليمة النقية والسويَّة؛ فقال لكل مؤمن في كتابه العزيز: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ"؟، فهذا التساؤل لم يأتِ به الله ليستمع إلى الإجابة؛ ولكنه أتى للتنبيه على الوجود الدائم للمصباح المنير في أعماقنا؛ فلا نطفئ ذبالته بالتشاؤم واليأس في رحلة الحياة.. من المهد إلى اللحد.

ولعلني ضربت المثل بهذه الثقافة عند الفلاح؛ كنوع من تقريب الصورة للأذهان لنلتقي معًا في نقطة؛ فهناك العديد من الأمثلة والمواقف التي توضح ضرورة التمسك بهذه الثقافة؛ واتخاذها سُلَّمًا لنرتقي به في دروب الحياة ومسالكها؛ فلولاها لما نجح "الثوار" والحالمون بالحرية والحياة الأفضل في شتى بقاع العالم؛ في القضاء على مظاهر الفقر والجهل والمرض والجوع في بلادهم؛ جراء تحكُّم السلطات القمعية الجائرة في حق شعوبهم.

ولولا وجود الأمل في النصر داخل عقيدة الجندي المحارب؛ لما خاض المعارك الدامية، وهو يعلم يقينًا أنه سيدفع حياته ثمنًا لهذا النصر المنتظر؛ كي يمنحه لمن يعيشون بعده من أجيال أولاده وأحفاده وبني وطنه أجمعين.

وتبقى المهمة الصعبة في طريقة وكيفية احتواء وامتلاك هذه الثقافة في روحنا وسلوكياتنا؛ فهي ليست قطعة من الديكور نضعها في ركنٍ من الأركان؛ ولا لوحة زيتية لفنان نزيِّن بها الجدران في حجرة استقبال الضيوف للتباهي والتفاخر؛ ولكنها نمطٌ لا يُكتسب إلا بالانتقاء الفطري والانفتاح الواعي على مختلف الثقافات والفنون الإبداعية بكل أشكالها من الموسيقى والشعر والأدب والمسرح.

وقديمًا قالوا: اعطني خبزًا ومسرحًا.. أعطيك شعبًا عظيمًا يصنع التاريخ ويغيِّر معالم الجغرافيا.

والثقافة لا تعني الدرجات العلمية ولا الكرافتات الشيك ذات الدبوس الذهبي؛ ولا الورود الحمراء والقرنفلات على الصدر، فكم من فلاحٍ بجلبابه البسيط؛ نشاهده في حقله مقبلاً على الحياة مشمرًا عن ساعديه تحت سياط الشمس الحارقة منشرح الصدر هانئ البال، ومنشدًا لأعظم أغنيات الفرح والحبور، وصادحًا كما الطيور المغردة على أفنان أشجار ونخيل حقله؛ عند الظهيرة نراه قابعًا في ظل هذه الأشجار مع كِسرة خبز مقدد وقطعة من الجبن معدوم الدسم؛ ولكنه يشيع وينثر عطر التفاؤل والأمل على كل من حوله؛ برغم كل مظاهر الفقر التي تحيط به وتمسك بخناقه؛ مرددًا بكل الثقة والإيمان القلبي من آيات القرآن الكريم: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} ( سورة يوسف: 87).

ويردد من مزامير الكتاب المقدس: "3 اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ. اسْكُنِ الأَرْضَ وَارْعَ الأَمَانَةَ. 4 وَتَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. 5 سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي" المزامير 37: 3-5
فلتشرحوا صدرًا وتهنأوا بالًا.. وتأملوا خيرًا في الله والوطن وفي غدٍ ملؤه الأمل.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: