يقول جمال حمدان: إذا كانت الجغرافيا تهتم بدراسة "التباين الأرضي" أي التعرف على الاختلافات الرئيسية بين أجزاء الأرض على مختلف المستويات، فإن قمة الجغرافيا هي التعرف على شخصيات الأقاليم وروح المكان لتستشف عبقريته الذاتية، وهذا يستلزم نظرة تركيبية لا تقتصر على الحاضر، وإنما ترجع للماضي القريب والبعيد، لأنه بالرجوع للماضي والتاريخ نتعرف على سمات وملامح الإقليم، ربما تكون الجغرافيا صماء أحيانًا، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها، ولقد قيل بحق..إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان..
ولذلك فإن الشخصية الإقليمية تستلزم ربط الأرض بالناس والمجتمع والحاضر بالماضي، والمادي باللامادي والعضوي بغير العضوي، ولذلك فهي عمل علمي بقدر ما هي عمل فني؛ ولذلك فالجغرافيا علم وفن وفلسفة في نفس الوقت، فهي علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها التركيبية.
ملامح الشخصية المصرية
ليس من السهل تحديد ملامح الشخصية الإقليمية وخاصة عند الحديث عن شخصية غنية وخصبة كشخصية مصر تمتد لآلاف السنوات، وفيها - كما يرى أو يدعي البعض - الكثير من المتناقضات؛ حيث التباين الشديد في الفروق الاجتماعية الصارخة ومن ناحية أخرى خلود الآثار القديمة وبساطة وفقر المسكن القروي، أو بين الوادي والصحراء أو بين الإمبراطورية والمستعمرة، ولذلك فعند الحديث عن شخصية مصر نجد أننا إزاء حالة نادرة من الأقاليم والبلاد من حيث الخصائص والسمات التي تجتمع فيها.
وبعض هذه السمات تشترك فيها مصر مع هذا البلد وذاك، ولكن مجموعة الملامح ككل تجعل من مصر بلدًا فريدًا فذًا حقيقة، فمصر بطريقة ما تنتمي إلى كل مكان دون أن تكون هناك تمامًا؛ فمثلا مصر بالجغرافيا تقع في إفريقيا، ولكنها أيضًا ترتبط بآسيا بالتاريخ، وهي متوسطية دون مدارية بعروضها، هي في الصحراء وليست منها، هي شبه واحة، هي فرعونية بالجد، عربية بالأب، هي بجسمها النهري قوة بر، ولكن بسواحلها قوة بحر، وهي بذلك تضع قدمًا في الأرض وقدمًا في الماء، وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقًا ليس قويًا، ولكن برسالتها التاريخية تحمل رأسا أكثر من ضخم، وهي توشك بعد هذا كله أن تكون مركزًا مشتركًا لثلاث دوائر مختلفة؛ بحيث صارت مجمعًا لعوالم شتى، فهي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الإسلامي، وحجر الزاوية في العالم الإفريقي.
وإذا كان لهذا كله مغزى، فهو ليس كما يدعو البعض تجمع بين الأضداد والمتناقضات، وإنما مصر تجمع بين أطراف متعددة غنية وجوانب كثيرة خصبة وثرية، تجمع بين أبعاد وآفاق واسعة بصورة تؤكد فيها (ملكة الحد الأوسط)، وتجعلها سيدة الحلول الوسطي.. أو أمة وسطا بكل معنى الكلمة.. فمصر وسط بكل معنى إيجابي وذهبي، ولكن ليست أمة نصف، فمصر وسط في الموقع بالدور الحضاري والتاريخي، في السياسة والحرب، في الموارد والطاقة، في النظرة والتفكير والحلول، ولعل في هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها على مر العصور، فمصر في النهاية "فلتة جغرافية" ليس لها مثيل لا تتكرر في أي ركن من أركان العالم تلك هي حقيقة عبقريتها الإقليمية.
تعريف الموقع والموضوع وأهميتهما في تفسير الشخصية المصرية:
النظرية العامة التي يعتمد عليها د.جمال حمدان في تفسير شخصية مصر: هي التفاعل ائتلافًا أو اختلافًا بين بعدين أساسيين وهما الموضع site.. والموقع situation.
الموضع خاصية محلية داخلية ملموسة، ويشمل البيئة الطبيعية لمصر بخصائصها وحجمها ومواردها، والأرض التي نحيا عليها؛ أي البيئة النهرية بطبيعتها، وجسم الوادي بشكله وتركيبه، وأرض مصر بوجه عام، والموقع هو فكرة هندسية غير منظورة، وهو صفة نسبية تتحدد بالنسبة إلى توزيعات الأراضي والناس والإنتاج، هو ما حولنا أو حول إقليمنا والعلاقات المكانية.
وأرى أن الموضع هو ما نقف ونعيش عليه، والموقع هو ما يحيط بنا، وبهذين العنصرين والعلاقة المتغيرة بينهما يفسر جمال حمدان شخصية مصر.
وسنتحدث عن التجانس في مصر الأحد المقبل إن شاء الله.